الخميس، 21 أكتوبر 2010

خمارة الشيخ خالد... الحلقة الرابعة و الأخيرة






"عزيزة بنت أبي مبروك"
.... أرملة (خميس حمو) و أم أبنائه اليتامي؛ شابة غيداء ألبسها الحزن و الحاجة لباسًا كئيبًا بعد العثور على جثة زوجها ملقاة بقنال المحمودية و تردد أقاويل حول إتجاره -أي خميس- في المخدرات... ربما اختلف مع أحد شركائه فباغته الأخير بضربة على أم رأسه ثم أجهز عليه.

لم تجد (عزيزة) غير الشيخ خالد شريك زوجها السابق و الرجل الطيب الوقور الذي توسط لدى ضابط الشرطة كي يحفظ التحقيق في مقتل (خميس) و لا يتم تفتيش منزلها أو الورشة -و أكرر؛ كيلا تُفَتَّش الورشة- و ذلك لإبعاد القيل و القال عن تلك الأسرة المكلومة -أسرة خميس-!

و هذا ما أكنت (عزيزة) للشيخ خالد من عرفان للجميل, أما (الشيخ خالد) نفسه فرأى في (عزيزة) الشباب الذي يذكي نار كهولته, و رأى في ضعفها و انكسارها فتنة لا تفوقها كل الفتن؛ فالمرأة المنكسرة لها من السحر ما يمسك بلباب الرجال و يلوي أعناقهم.... لذا حاول الشيخ التقرب إلى تلك الحسناء بشتى الطرق؛ و طرق الرجال كثيرة في ذلك فهو إن لم يملك قلبها بالرضا تقرب إليها (بكسر عينها) و التفضل عليها, و تلك طريقة من هم أمثال (الشيخ خالد)؛ فتجده يدفع عنها إزعاج تحقيقات الشرطة و يصرف لها بين الحين و الحين ما يعينها على أن تقتات فتات العيش.

و كلما رأى في عينيها مسحة من ذلك الضعف الساحر ازداد شغفه بها و إصراره على التقرب إليها.

أما هي -(عزيزة)- فهي كما قلنا لم تجد غير (الشيخ خالد) صديق والدها يساعدها و يحنو عليها و ينتشلها من مصابها, صحيح أن نظراته -أحيانًا- ما تكون غريبة نوعًا ما, و صحيح أيضًا أن زوجها الراحل (خميس) قد حذرها كثيرا من التعامل مع الشيخ إلا أنها لم تجد منه - أي الشيخ- ما يسوء؛ بل بالعكس قد مات زوجها (خميس) غير مأسوف عليه و بقى (الشيخ خالد) ليقسم بحسن سيرته الناس أجمعين.

و لذلك عزمت أن تتوسط لديه كي يجد عملًا لابنها الأكبر.

*******

ابتلع (الشيخ خالد) دواء الكبد و أتبعه بعدة أكواب من الخمر, و كان على حالته تلك يفكر فيما آل إليه؛ يفكر في ذلك الشيخ الذي أشاع الفضيلة فيمن حوله و اهتدى بنوره الحيران و الضال, ذلك الشيخ الذي ارتدى زي الملاك و بشر له من الصفات و الرغبات ما لبني آدم في الأرض.... في النهار يحذر الملاك الناس من زخرف الدنيا, و في الليل يظهر شيطانه ليأتي أدنى أنواع ذلك الزخرف....

لكن....

أليس للإنسان -كبشر- حق في أن يخطئ؟ أن يضعف أمام غرائز وُضِعَت فيه غرسًا و باتت جزءًا من تكوينه؟ هل له أن يدفع تلك الطبيعة التي جُبِلَ بنو آدم على وجودها -طبيعة الاشتهاء-؟

عجبًا لك أيها الشيخ!! تحفظ "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ..." و "كانوا إذا اختلوا بحرمات الله انتهكوها" و تلقي مما تحفظ على أسماع الناس ثم ها أنت تقول إنها الغريزة التي تقود بني البشر.... تحفظ "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ....." و تحفظ "وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ...." ثم تقول؛ "سيغفر الله لي و سأتوب يومًا ما".... تحفظ عقوبة الرياء و ترجو غير ذلك!!!

لكن... ما هو الجل؟ لا يعرف شيخنا الحل و لو عرفه ربما لا يقوى على تنفيذه, إنه يجد في لذة لحظات الشرب مصيرًا لا فرار منه, و في حبه لعزيزة هدفًا لن يحيد عنه.... (عزيزة)؛ مهجة قلب الشيخ التي ذهبت بما أبقاه المرض من لباب عقله, تلك المرأة التي يسعى إليها بكل ما أوتي؛ ساهم في حفظ قضية زوجها كي يظهر أمامها ذلك البطل الوقور, و تقرب إلى أبيها و حمل عنها بعض أحمال الحياة....

أتراه يمضي إلى بيتها فيطلبها لنفسه و يطفئ نارًا تأججت في بقايا جسده المريض؟

دارت رأس الشيخ جراء الخمر و أضناه التفكير و زادت عليه آلام المرض المبرحة, لكنه عزم أن يذهب إلى بيت (عزيزة) في تلك الساعة المتأخرة ليطلبها يدها للزواج - و هي لمَّا تتم عدتها بعد-!

********

لم تملك (عزيزة) إلا أن تصرخ و تستنجد بالجيران عندما أتاها (الشيخ خالد) في آخر الليل على حالته تلك؛ ثمل متأرجح في عينيه المكر و في لسانه العسل المسموم.

أغلقت الباب في وجهه و انطلقت تستنجد بالناس أن ينقذوها من ذلك الشيخ المرابض أمام شقتها حتى إذا تنبه الجيران هرب الشيخ يحاول الوصول إلى بيته بما تبقى من قوته ليختفي عن الأنظار, و عندما حضر الجيران إلى منزل (عزيزة) قصَّت عليهم ما حدث فلم يصدقوها و ظنوا بها التوهم, لكن بعض المارة ممن لمحوا ظل الرجل الذي هاجم البيت و هرب قالوا إنه يشبهه كثيرًا لكنه كان بعيدًا عن أعينهم في الظلام...

لم يصدق الناس و ظنوا أن في الأمر لبس ما؛ كيف لشيخهم الجليل أن يترك قيالم ليله ليرتكب ذلك الحمق؟!

بعد نقاش قصير تحرك أهل العزبة نحو بيت (الشيخ خالد) ليقطعوا باليقين كل شك, وصلوا إلى باب شقته يُحَدَّث كل واحد منهم نفسه غير مصدق و يخشى لو أن الشيخ قد أصابه مكروه دفعه إلى أن يفعل ما لا يدري....

و عند الباب؛ بدأوا طرْقًا خفيفًا لم يجد ردًا, ثم ازدادت قوة الطرْق شيئًا فشيئًا حتى ازدات معها الشكوك ففتحوا الباب عنوة ثم انطلقوا داخل الشقة يبحثون عن الشيخ و لم يجدوه, لكنهم وجدوا شيئًا آخر....

السلم الخشبي...

بكل وجل هبط أهل العزبة السلم... و انخلعت قلوبهم من هول ما رأوه!!

رأوا شيخهم و إمام مسجدهم ملقى -بين زجاجات الخمر المبعثرة- جاحظ العينين أحمرهما و جسده نازف من كل موضع فيه....

اقتربوا منه و لمسوه فوجدوه باردًا ميتًا!!

لم يصدق أهل العزبة ما فُضِحَ أمام أعينهم من أمر (الشيخ خالد) و لم يتحملوا أن تنهار قدوتهم في لحظة...

******

في نهار اليوم التالي؛ حملوا جثمان الشيخ إلى قبره, و هناك احتاروا؛ ماذا يكتبون على شاهده؟ إلى أن تقدم احدهم و خطَّ كاتبًا:
"هنا يرقد من كان بين الناس قديسًا و في خلواته إبليس".

أما البيت و الخمارة؛ فتركهما أهل العزبة على حالهما و تعاقبت عليهما الأجيال حتى صارا يعرفان بـ"خرابة الشيخ خالد"...

و يقال أنه عند اكتمال البدر من كل شهر عربي يُسْمَع نحيب مكتوم من داخل الخرابة.

تمت
أحمد ثروت
10/2010



السبت، 9 أكتوبر 2010

بخاف



أيوة بخاف!!
يمكن كلامي مايدلّش..
و شكلي ما فيهوش اختلاف
لكني بخاف!!

أخاف لو شمسي طلعت..
من لحظة غروب قريبة
أخاف لو بعد الضلمة
يا شمس ما تطلعيش
أخاف أقوم في يوم و مالقاكيش
أخاف أعيش
على أمل يطلع وهم
و ما ينتهيش
أخاف ينتهي بيا الطريق.. لمفيش

أيوة بخاف..
لما أبص من شباك حياتي
اللي مش شفاف
و ألاقي خطوط العمر
-تقال أو خفاف-
تكسر الضيّ في إزازي
و يخش ضي الأمل مكسور..
مكسور لقلبي و لراسي

أخاف لو أيام الفرج
تنتهي بلحظة تعاسة
أخاف لما أشوف..
الحزن في عيون البشر
لما الظلم بيرسم ع الوشوش
فقر و هم و غم و ضجر
و السفينة من صخرة لصخرة
و من مينا لمينا
ياخدوا منا أجمل ما لينا
ياخدوا الحب اللي في عنينا
ياخدوا منا بعض قوة
قلّوا كانوا أو كتير

أيوة بغير..
لما بشوفِك في مرايتي المسحورة..
مش معايا
لما يبقى اللي بيجمعنا..
مش كفاية
لما آجي أحكي عنّا..
مالقاش حكاية

أيوة بخاف
حتى لو باين سعيد
أيوة بخاف
و عارف..
إن الفرج مش بعيد
أيوة خايف م الجديد

أيوة خايف
و اللي معزيني
إني في الخوف مش وحيد

تمت
أحمد ثروت
9/10/2010


الخميس، 16 سبتمبر 2010

خمارة الشيخ خالد.... الحلقة الثالثة


دعونا أولا نتعرف عن قرب بـ(خميس حمو), (حمو) هو أحد الأعضاء الفاسدة في مجتمع العزبة, شديد السخط على حياته و رفيق دائم لأصدقاء السوء, لا يعرف لنفسه مهنة محددة لكنه امتهن -لفترات من حياته- بعض الحرف و له خبرة لا بأس بها في تصليح السيارات... خاب أمل والده فيه و كثيرا ما طرده من بيته حتى اضطر اخيرا لتزويجه لعل الزواج و مسئولية الأبناء يصلحان من حاله.
خميس الآن عاطل, و قد قرر الانقضاض على حانوت (الشيخ خالد) ظنًا منه أنه يخفي كنزًا ما...
*******
في الصباح؛ استيقظ أهل العزبة على خبر مشاركة الشيخ خالد لخميس حمو بورشة لتصليح السيارات تقام بحانوت الأول و يديرها الأخير, و الحق يقال تعجب الناس و أوغلوا في تعجبهم؛كيف يشارك شيخنا الجليل ذلك اللص (خميس حمو) المعروف ببلطجته و سوء سلوكه؟! كيف رفض الشيخ كل العروض المغرية لشراء حانوته من قِبَل أعلى أهل العزبة ورعًا و أفضلهم سمعةً ثم يوافق أن يشارك ذلك اللص؟! ربما رأي شيخنا الحكيم أن يفتح بابًا للرزق الحلال أمام ذلك الشاب الضائع في دروب الحرام...
فتح الله على شيخنا الجليل و وهبه حسن ثواب عمله!!!
مضى أهل العزبة يباركون للشيخ و يدعون لخميس بالهداية -و إن استبعدتها عقولهم- فذيل الكلب قلما ينعدل؛ كذلك قالوها.
و الحقيقة أن اهل العزبة لا يعرفون شيئًا عن المفاوضات الشاقة التي جرت الليلة الماضية بين الشيخ خالد و بين خميس, ذلك أنه حينما دخل الأخير الحانوت و اطلع على حال الشيخ قرر أن يستغل السر الذي عرفه و ظل يساوم الشيخ و يضغط عليه حتى قَبِل الشيخ أن يشاركه بورشة يديرها خميس في مقابل أن يحتفظ له بزجاجاته داخل دولاب بالورشة لا يملك مفتاحه إلا الشيخ, فإذا دقت الساعة الثانية عشر تُغلَق الورشة و يهبط الشيخ سلمه الخشبي ليشرب ما يحلو له.
أليس (خميس حمو) لصًا مبتزًا؟ بالتأكيد ذلك الموقف المستغل من ذلك الشخص الصعلوك ينم عن إضمار نية السوء بابتزاز الشيخ المسكين.
لكن الواقع كان شيئًا آخر تمامًا...
*******
بات (خميس حمو ) ليلته الاولى يفكر فيما رآه من سر (الشيخ خالد)؛ فها هو الشيخ الجليل -الذي طالما مجَّد أهل العزبة في ورعه و زهده و حسن سيرته- ها هو و قد أضحى كاللعبة التي نخرها سوس المعصية, ها هو رمز الفضيلة و قد استهوته الشياطين في الأرض حيران.
يا لها من دنيا رخيصة فاتنة توقع في شباكها كل من يبحث عن لذة الساعات القليلة!!
أما فيما يخصه -و هو خميس حمو الصعلوك صاحب السيرة السيئة- فقد أحس أن الله قد فتح له بابًا للرزق في صورة ورشة تعينه على التوبة و الرجوع, إن الله قد أتاح له الفرصة و أراه من آياته في قصة (الشيخ خالد) حتى يعود إليه رجلًا صالحًا يتكسب قوت يومه و أولاده بالحلال و يصلح في الأرض, صحيح أن مشروعه قام -أساسًا- على مساومة الشيخ لكن خميس عزم في قرارة نفسه أن يراعي الله في رزقه و ألا يغش أو يخدع في عمله.
اما( الشيخ خالد) فبات ليلته يحترق كمدًا و غيظًا من ذلك السخيف الذي اخترق حجاب سره و فضحه امام نفسه, و لم يكتف بذلك بل ساومه و شاركه بحانوته, و نغَّص عليه شهوة معاقرة الخمر باتفاق ثقيل الظل يمنعه من الشرب قبل منتصف الليل؛ فإذا انتصف هذا الليل أو ذاك اضطر الشيخ إلى إشباع شهوة الشرب في مكان يعب برائحة البنزين و زيت السيارات.
و مع تفكير (الشيخ خالد) المستمر و احتراق قلبه بما حدث لم تنتهِ ليلته حتى ازدادت عليه آلام التليف الكبدي المبرحة و ارتفع ضغطه البابي حتى انه جرى نحو باب شقته يتقيأ دمًا و يستغيث بأهل العزبة الذين نقلوه بأسرع وقت إلى طبيب المستوصف.
*******
يومًا بعد يوم راجت ورشة التصليح التي اعتمدت في الأساس على تصليح أعطال السيارات التي تدخل الأسكندرية من ناحية العزبة, و مع رواج عمله تحسنت حالة (خميس) النفسية و بدأ يعود قليلًا قليلًا نحو الطبيعة السوية المخلصة, و صار له في قصة (الشيخ خالد) أبلغ العبر فيمن تحتنكه شهوته و نفسه الأمارة بالسوء بعيدًا عن الصراط المستقيم.
كثيرًا ما دعا (خميس) للشيخ المسكين و أشفق عليه...
مع كل شخص يهم بتقبيل يد الشيخ الفضل.. يشفق عليه
مع كل جملة وعظ يلقيها الشيخ من فوق المنبر على أسماع و قلوب الناس.. يشفق عليه
مع كل ابتسامة سماحة يخفي وراءها وحهًا مظلمًا.. يشفق عليه
مع كل مرة يمر الشيخ من أمام الورشة و ينظر إليه مستعطفًا أن يوصد أبوابها و يمضي ليخلو هو مع سره... يشفق عليه.
و لم يستطع (خميس) أن يتخلص من التأمل في حالة الشيخ, و شغله ضميره حتى في أوقات راحته في منزله؛ فاتخذ في نهاية الأمر قرارًا و عزم على تنفيذه....
قرر أن ينغّص على (الشيخ خالد) شربه؛ فبات يتعمد إبقاء الورشة مفتوحة حتى ساعة متأخرة, و أحيانًا يتعمد وضع معدات ثقيلة أمام دولاب الزجاجات كي يصعب فتحه على الشيخ, بل إنه حاول في مرات أن يسدي النصح للشيخ و أن يحرجه أمام نفسه.
*****
في صباح أحد الأيام ذهب (الشيخ خالد) إلى الورشة مغاضبًا و قد بدا عليه آثار السهر و الأرق و تنطلق من عينيه شرارات الغضب لتضيء وجهه المكفهر؛ و ذلك لأن (خميس) قد ألقى بمحرك سيارة من السيارات عند باب الدولاب و تركه, و حاول الشيخ المريض طوال الليل تحريك ذلك الشيء دون جدوى؛ فلم يعِ حتى طلع الصباح و فُتِحَت الورشة فهرع إليها مغضبًا مقبوضًا كأنما يصَّعد في السماء, و لما رأى خميس أمامه انفجر فيه مستنكرًا و متوعدًا ثم تطور الجدال حتى علا صوتهما و تجمع الناس ينصرون الشيخ الذي تمادى في سباب مفزع وجَّهه ناحية خميس, أما خميس فأخذ يلوح بسر الشيخ دون أن يصرح به؛ مما أوقع بالشيخ في براثن اللعثمة و الهمهة ثم مضى يقسم بأغلظ الأيمان ليفعلن بخميس ما يجعله يندم على فعلته تلك...
عاد الشيخ إلي شقته مرعوبًا بعد أن لوح خميس بأنه قد يفشي سره في أي لحظة, و صارت العقبة الكئود التي يتمنى الشيخ لو تخلص منها هي (حمو)...
و صار لزامًا عليه أن يفعل المستحيل ليتخلص من تلك العقبة....
بات الشيخ يفكر....
و يفكر....
و يفكر...
******
في الليلة التالية عاد الشيخ لبيته و قد اشترى قفطان جديدًا بدلًا من قفطانه المتسخ!!!

يتبع إن شاء الله
أحمد ثروت
9/2010

الثلاثاء، 7 سبتمبر 2010

خمارة الشيخ خالد... الحلقة الثانية



ينهض (الشيخ خالد) ليؤم الناس في فجرهم, و قد يقرأ بهم آية (لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى), ثم يمضي بعد أن يصافحه المصلون من أهل العزبة و يقصدونه في حل مشاكلهم و مسائلهم التي لا تنتهي, و يظل شيخنا مجاهدًا كل ذلك حتى يصل إلى بيته لينام بضع ساعات قبل صلاة الظهر.

مرت على الشيخ أيامه و لياليه؛ يرفض بيع الحانوت في يومه و يرتاده في ليلته, و قد تمر عليه أوقات يود فيها لو استطاع تحطيم (البار), بل إنه أحيانا يعقد العزم على ذلك؛ فإذا ما امتنع لليلتين أو ثلاثة تجده في الليلة التالية مهرولًا منتكسًا....

*****
في يوم من أيام الشيخ -و بينما هو خارج من مسجده مع بعض أعيان العزبة- نشبت مشادة بين أحد رفقائه و بين واحد من الشباب المعروف عنهم سوء الخلق يدعى (خميس حمو), و حدث أن تطورت المشادة إلى حد العراك بالأيدي أمام (الشيخ خالد) الذي اضطر إلى التدخل و نهر (خميس) عن فعلته و أسمعه كلاما قاسيا عن احترام الكبير و حسن الخلق, ثم ختم كلامه بأن ما فعله (خميس) أمام الناس دليل على أنه لا يراعي حق الله حين يختلي بنفسه!!!

استشاط (خميس حمو) غضبًا من كلام (الشيخ خالد) و أقسم بأغلظ الأيمان ليرين الشيخ من الأفعال ما يجعله يندم على كلامه ذاك, فبهت الناس من جرأة (خميس) و هموا أن يتكالبوا عليه ليفتكوا به, أما شيخنا فوقف مكانه مبهوتا لا يلوي على شيء و أحس بألم شديد في جانبه الأيمن مما دعاه أن يفض العراك و يتحرك نحو بيته مستندًا على بعض شباب العزبة.

و بعد تلك الحادثة لاحظ أهل العزبة اصفرارًا و احمرارًا في عيني الشيخ, إلى جانب تكرار آلام جانبه الأيمن عدة مرات, فنصحوه أن يرتاح قليلا و ألا يرهق نفسه في قراءة الكتب الفقهية و قيام الليل بالكامل -كما ظنوه فاعلا- كما نصحوه أيضا بزيارة الطبيب.

و أمام إلحاح أهل العزبة و خوفه من موت يفاجئه زار الشيخ الطبيب, و بعد إجراء الفحوصات اللازمة أخبره بوجود تليف شديد بالكبد, عرف الطبيب أن سبب التليف هو تناول الكحوليات لكنه لم يصدق نفسه و لم يجرؤ على نطقها...

و يوما بعد يوم تزداد على شيخنا آلام جانبه الأيمن, و هو يزيدها بمزيد من الشرب, بالتأكيد حاول بشتى أنواع المدعمات و الأدوية إيقاف آلامه لكنه فشل في منع السبب الرئيسي.

و مع الوقت اعتاد حياته المرضية الجديدة و عاد يؤم الناس و يخطب فيهم يوم الجمعة عن خشية الله في السر و العلن, و يلقي الدروس الدينية يوميًا عن العبادات و السيرة و الحديث... إلخ

الخلاصة أنه عاد لارتداء قناع الشيخ الذي اهتدى على يديه كثير من البسطاء.

أما فيما يخص شربه للخمور؛ فقد قلَّ وجله شيئا فشيئا حتى انكمش, و لا يمنع ذلك أنه كثيرًا ما كان يضرب نفسه ألف قلم و قلم على فعلته الشنعاء.

مرت حياته هكذا دواليك حتى عاد ليلة إلى بيته و خلع عِمَّته و قفطانه و ولج الغرفة اللعينة ليزيح البساط و يهبط السلم و يضيء المصباح و......

و لم يجد نفسه وحيدا!!!

ما كاد يلتفت حتى رأى (خميس حمو) أمام وجهه..

تسمر الإثنان في أماكنهما.
و كلاهما أسقط في يديه...

يتبع إن شاء الله

أحمد ثروت
7/2010

re-written 9/2010


السبت، 28 أغسطس 2010

خمَّارة الشيخ خالد!! الحلقة الأولى



"ليس كل ما يلمع ذهبًا"

هي أصدق كلمة يقولها (الشيخ خالد) لأهل منطقته؛ كثيرًا ما يبدأ بها حين يأتي أحدهم شاكيًا و طالبًا النصيحة: "أعمل إيه يا مولانا؟"

شيخنا هو أحد قاطني (عزبة سكينة) على أطراف الأسكندرية, و هو في نفس الوقت إمام لمسجدهم؛ مما أهَّله -بجانب علمه الغزير و سعة إطلاعه- إلى أن يضحى موضع ثقة أهل العزبة البسطاء و مستودع مشاكلهم و أسرارهم, هو لهم القدوة و القيادة, كلامه مصدق عليه و نور وجهه يشيع الطمأنينة و البركة أينما حل.

بمخيلة كل أب في العزبة أن يرى ابنه في مكانة (الشيخ خالد) العالية؛ و لذا كانوا يرسلون له الأطفال الصغار ليحفظهم القرآن الكريم و ليعلمهم من علمه و ينشئهم على حب العلم و الأخلاق الحميدة...

لكن......


كان الشيخ خالد يمتلك بيتا صغيرًا في العزبة يتكون من طابق علوي واحد وحانوت صغير مغلق, ما انفك شيخنا يرفض بتاتا أن يبيعه أو حتى يؤجره لأحد سكان العزبة, و ذلك الموقف بالذات احتار فيه الناس؛ فما يلبث أحدهم أن يذكر ذلك الحانوت حتى يكفهر وجه شيخنا و يعرض قائلا: "المحل دا بتاعي و مش هاقدر أبيعه".

لكن موقفه الغريب لم يمنع أهل العزبة أن يرددوا في قرارة أنفسهم أنه "فاهم أكثر منهم" و أنهم لن يستطيعوا أبدا مجاراة عقله الراجح و حكمته الواسعة في الاحتفاظ بالحانوت لنفسه, و لم يمنعهم ذلك أيضا من اللجوء إليه في كل مشاكلهم و التبرك به في مناسباتهم.

لم يتزوج الشيخ خالد أبدًا!! و كان حجته في ذلك أنه مشغول عن الزواج, و كان حجة أهل العزبة في تصديقه عقله الراجح و بعد نظره حتى أنه يرى ما لا تدركه عقولهم البسيطة.

لكن ليس ما قيل هو كل الحقيقة!!

فضَّل الشيخ خالد أن يعيش وحيدًا لأنه لن يجد أبدًا من يأتمنه على سره الذي عاش به و عاش له؛ فما يكاد (الشيخ خالد) ينعزل عن العالم و يدلف باب شقته حتى يخلع عنه عِمَّته و قفطانه و يبدو عليه الخوف و التردد حتى لكأن نور وجهه قد انطفأ, و بعد فترة من المقاومة يجد نفسه دالفًا إحدى الغرف في شقته, لا يضيء أنوارًا لكنه يسحب البساط من على الأرض فيظهر سلم خشبي يؤدي إلى أسفل, يهبط السلم وجلًا حتى يصل إلى آخره؛ و كان آخره هو الحانوت المغلق!!!

يضيء الشيخ مصباحا خافتا بيد مهتزة و قلب يرتعد, حتى إذا وقع بصره على (بار) خشبي متهالك في أحد الأركان انكب عليه يصب لنفسه من كل الزجاجات المرصوصة و يشرب بنهم كي لا يترك لنفسه فرصة للتراجع أو العودة, و هو مع كل كأس يبكي و يزداد بكاؤه حتى يوشك على الانتحاب لكنه يكتم صوته كي لا يشعر به المارة بالخارج.

و يظل شيخنا على تلك الحال معظم ليله؛ باكيًا مهتزًا, و هو في ذلك يصب الكأس تلو الكأس, و حين ينتهي به الصراع يطفئ المصباح و يهرول على سلمه ضاربًا رأسه بكفيه و باحثًا عن بعض الماء يغسل به وجهه حتى يستفيق....

يتبع إن شاء الله
أحمد ثروت
7/2010



السبت، 17 يوليو 2010

تعلمت 2

أحد أبطال فيلم (الكرنك) و صاحب نظرية:
"الحرية إنك تقول لأ.. و لو ماقولناش لأ يبقى نموت"

هو أعلى الشباب صوتا و أكثرهم حرصا على نقد الأوضاع... و هو اول من انهار أمام رجل الأمن عقب اعتقالهم!!!

بكى بنفس الصوت الذي طالما زعق بانتقاد كل شيء و أي شيء, و كانت كلمته: "أنا وحيد أمي و أبويا يا بيه"!!!

الشاهد: اجعل انفعالاتك تنبعث من داخلك و لا تنساق خلف انفعالات الآخرين لمجرد بريقها؛ فكثيرا ما يكونا الأعلى صوتا هو أول من ينهار.

ربما تكون حالتنا هي القاعدة, أو تكون ما شذ عن القاعدة, لكن في كلا الحالتين النتيجة واحدة

و دمتم بإذن الله سالمين

الأحد، 27 يونيو 2010

أقوال...1

"قد اختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن ادفع حياتي دفاعاً عن حقك في التعبير عن رأيك".
فولتير

الثلاثاء، 30 مارس 2010

انا حاقد.. الحلقة 3-3 الأخيرة

مبدئيا؛ أنا شيخ عجوز تخطى السبعين من العمر, و لك كل الحق أن تسأل كيف لحقود مثلي أن يعيش كل هذا العمر؟ فالقاعدة المعروفة أن الحقود يموت صغيرا, و قليلون منهم هم من يصلون إلى سن الستين؛ فالحاقد أكثر الناس عرضة لأمراض الضغط و السكر و الاكتئاب و جميع الأمراض النفسية و العصبية و حتى الجلدية منها..

أما أنا فاستثناء من القاعدة, ربما اراد الله أن يعاقبني في الدنيا بأن أمد في عمري حتى أموت من الملل...

أنا الآن أعيش وحيدا؛ لا أجد حتى من أحقد عليه, و كيف يتسنى لشيخ مثلي أن يرى أناسًا أو يتعامل معهم حتى يحقد عليهم, أما هؤلاء الحاقدين الشبان فيجدون ضحاياهم بكل سهولة... تبًا؛ إني أحقد عليهم جميعا..

حتى المال الذي ادخرته على مدار حياتي طار على كشوفات و تحاليل و أدوية لا طائل من ورائها, كنت-حتى وقت قريب- أذهب إلى طبيب متخصص في عيادته, و بالتأكيد في كل مرة كنت أدفع (الشيء الفلاني), المهم أنه في الزيارة الأخيرة (رص) لي قائمة الأمراض التي تفتك بي و قائمة التحاليل و الأشعة التي طلبها, و بالطبع لم ينس أن يسرد لي قائمة المحظورات التي أتحرق شوقًا إليها.

أما أنا, فقد كنت مشغولًا عنه بممارسة هوايتي المفضلة:
الحقد..
ثم الحقد..
ثم الحقد..

و بالفعل لم أخيب ظني بنفسي؛ في الزيارة التالية جئت محملًا بتلال التحاليل و الأشعة لكني لم أجد شيئا, فقط عرفت أن الضرائب حجزت على العيادة و أن الطبيب اختفى في مكان لم يستدل عليه حتى الآن, وجدت نفسي مضطرا للذهاب إلى المستوصف المجاور, و في كل مرة أجد معاملة جافة منهم و تجنبا لي, حتى إذا انتهوا منّي صرفوني كما يصرف الصحيح الأجرب...

و ها أنا ذا في غرفتي أُجَرِّب بقايا الحقد في عينيّ:
"عربية حلوة قوي"... طرااخ
"الراجل دا صحته جامدة"... أيييي
"المحل دا بيكسب كويس"... حريقااااة

حسنا, مازلت امتلك بعض الموهبة إذن...

دخلت إلى الشقة و استرخيت على الأريكة...

تعبت!!

سأذيع لكم سرا؛ ما من شخص حقدت عليه إلّا و أصابني الله بأضعاف ما تمنيت لهذا الشخص؛ فها هو أخي الأصغر -الذي حاولت التخلص منه- من اكبر العلماء في مجاله و أحد رموز المجتمع, و كذلك المدرس الذي كان يضربني -رحمه الله- كان وزيرا سابقا للتربية و التعليم و أحد القائل الذين أحبهم الناس بحق..

و الميكانيكي؛ صار صاحب توكيل سيارات بمجهوده..

و البنك الذي عملت فيه و سرقته؛ صار من أكبر البنوك في الشرق الأوسط..

حتى زميلي الذي توفى تحت عجلات القطار!! تبين من التحقيقات أنه -حين نزل يائسا من صباحيته- حاول أن يفتدي طفلا كاد القطار أن يصدمه فمات بدلا منه, احتفل به أهله و اعتبروه بطلا..

أما انا؛ فأهلي هجروني و كذلك أصدقائي, ذهبوا كلهم و تركوني للملل.

يا لي من بائس!!

قمت من مكاني و قد اتخذت قرارًا:
سأحبس نفسي في غرفتي و اظل أحقد على نفسي حتى أموت...

*****
(4)
كيف استطاعت أعصابكم الفولاذية أن تتحمل حتى تكملوا قصتي إلى نهايتها؟؟
...
إني أحقد عليكم!!

تمت
أحمد ثروت
15/3/2010

الأربعاء، 24 مارس 2010

انا حاقد.. الحلقة 2-3


مبدئيا, انا شاب في أواخر العشرينات...

و ارجوك لا تسألني لماذا قفزت في قصتي كل تلك المسافة الزمنية... لأني اترك لذهنك أن تتخيل إنسانا-بدأ حياته بالحقد على اخيه الأصغر- كيف سيمضي تلك الفترة الزمنية؛_ ماذا فعل حيال أستاذه الذي كان يضربه, كيف تصرف مع زميله الذي طالما تفوق عليه دراسيا, و كيف كان ينظر إلى (الميكانيكي) الذي يكسب في اليوم أكثر منه بكثير...

انا أعمل الآن محاسبا بإحدى البنوك, و البنك-لمن لا يعرفه- هو مكان يودع فيه أولئك الأغنياء اموالهم الطائلة, أما وظيفتي في ذلك البنك هي أن يأتي إليّ احد الاغنياء ليأخذ من بحر أمواله, و ما عليّ إلا أن انظر بكل حقد و حسرة إلى الأموال التي تخرج من تحت يديّ, و انا اندب حظي العاثر...

و كان معروفا عن بنكنا-العزيز- أن من يسحب من عندنا مالا لا يعود إلى بيته سليما أبدا...

إما ان تصدمه سيارة على باب البنك..
أو تصيبه (نوبة السكر) في شارع جانبي خال من المارة..
أو -في أحسن احواله- يخرج عليه مجموعة من اللصوص ليستولوا على امواله
....

حار الناس في امر بنكنا, و تدريجيا بدءوا يركزون حيرتهم ناحية الشباك الذي اجلس خلفه...
بدءوا ينظرون إليّ نظرات غريبة..
و لم اعرهم اي اهتمام؛ كنت في شغل عنهم بشيء آخر....

زميلي على الشباك المجاور, من حظي العاثر أن كلينا- -أنا و هو- وقعنا في غرام نفس الفتاة...

مصادفة غريبة, اليس كذلك؟ عموما هي -بالتأكيد- اكثر واقعية من الصدف التي تحدث في قصص إحسان عبد القدوس, المهم؛ ظل الحال على ما هو عليه إلى انا عرفت -يوما- بميعاد زفافهما؛ بالتأكيد هو لم يدعني للحفل لكني عرفت بأي حال-لا يهم- , المهم الآن أن أصب عليه جام حقدي و أن أُخْرج كل عقدي النفسية على ذلك المحظوظ ابن... المحظوظة.
...

و نتيجة لذلك؛ أصابه -يوم فرحه- تيار هواء تسبب في شلل مؤقت للعصب السابع؛ او ما يسميه العامة مثلي (جاله برد في وشه), كانت إصابة مباشرة لكنها لم تشف غليلي؛ ماذا يضر عريس في ليلة فرحه أن يصيب عصبه السابع بعض الشلل؟ إن ما يهم العريس -أي عريس- في مثل تلك المواقف أن يتمتع بـ(عصب عاشر) سليم معافى....

الويل لذلك المحظوظ, إنه يملك (عصبا عاشرا) يعمل بكفاءة.
....

في اليوم التالي؛ عرفت أنه القى بنفسه أمام القطار... لأن عصبه العاشر لم يسعفه...

و لم تكد تنقضي عدته حتى تزوجت أرملته الجميلة, و مع الوقت عرفت أنه ليس بـ(العصب العاشر) وحده يسعد الناس, كانت مثالا للزوجة الشكاءة البكاءة النكدية كثيرة الطلبات, حتى أني بدأت أحقد على زميلي الذي توفى تحت عجلات القطار, لا أعرف ماذا سيحدث له أكثر من أنه مات...

كانت تدفعني دفعا نحو زيادة دخل الأسرة بأي شكل كان؛ حتى أنني اعتدت الاختلاس من أموال الأغنياء الموجودة في البنك, و في إحدى المرات فُضِح أمري و قدمت للمحاكمة....

بسببها خسرت وظيفتي, و خسرت سمعتي, و خسرت عمري خلف القضبان... أما هي؛ فمضت في إجراءات الطلاق حتى حصلت عليه, و لم تكد تنتهي عدتها حتى كانت قد تزوجت من (خروف) آخر...

يتبع إن شاء الله

أحمد ثروت
12/3/2010

الأربعاء، 17 مارس 2010

أنا حاقد... الحلقة الأولى (1-3)


مبدئيا؛ أنا طفل في الثالثة من عمري....
و ارجوك لا تسألني كيف لطفل في الثالثة أن يتكلم بتلك اللغة العربية الرصينة, و ان يصل إلى تلك المعاني و الأفكار, دعك من هذا كله ولا تتعجب فنجيب محفوظ كان يُجري الحِكَم الفلسفية المعقدة على ألسنة (ملمعي الأحذية).

فقط أنصت إلى قصتي...

كنت-حتى وقت قريب- محور أحداث البيت كله؛ لنقل أني الآمر الناهي, فإذا كان أبي يسيطر على البيت, و امي تسيطر على أبي, و أنا أسيطر على أمي؛ فأنا-فعليا- صاحب الرأي الأوحد في أسرتنا.

ظل الحال على هذا المنوال-تكفي صيحة بكاء واحدة مني كي يهب البيت كله- إلى أن لاحظت يوما ما انتفاخا بسيطا في بطن أمي...

- إيه دا يا ماما؟
-دا أخوك يا ميدو.
-انتي كلتي أخويا يا ماما؟

أخذ أخي يكبر شيئا فشيئا داخل بطن امي, و بدت هي بدورها تضيق صبرا بي و بأوامري, حتى كبرت بطن أمي بشكل مريب..
اختفت أمي عن البيت لفترة... يقال أن بطنها قد انفجرت ليخرج منها أخي.

و الواقع أنه لم يكن-بالنسبة إلىّ- انفجارا حميدا؛ لقد كان بمثابة إنقلاب و انتقال غير سلس للسلطة داخل البيت (لاحظ أني حذرتك ألا تتعجب من اللغة الفصحى التي يستخدمها طفل مثلي).

و كما يفعل أي حاكم سابق؛ رفضت الاعتراف بانتقال السلطة, بصراحة لم أكن اطيق الاهتمام الزائد بالحاكم-أقصد المولود- الجديد و تسليط الأضواء كلها عليه, بل الأخطر من ذلك؛ انهالت عليّ كمية لا بأس بها من تعليقات الأقارب السخيفة؛ مثل:
"خد بالك من اخوك يا ميدو"...
"انت خلاص كبرت على الدلع يا ميدو"...
و اخيرا التعليق الأسخف على الإطلاق, و الذي دائما ما ينتهي بضحكة رقيعة:
"تلاقيك هتموت من الغيظ يا ميدو... هع هع هع هع"

يا للسخافة....

لا بد من خطة محكمة للتخلص من ذلك الطفل السخيف....

و وجدتها

في يوم (السبوع) المشئوم؛ تصنعت أنا الفرحة بأخي العزيز-جدا جدا-, و ظللت اتحين الفرصة التي أحمله بين يديّ, حتى إذا جاءت اللحظة المناسبة ألقي به من أقرب شباك....

لكن يبدو أن امي كانت على علم بالمخطط السري؛ فلم تعطني أي فرصة للتمكن من ذلك الطفل-الطفيلي.

انتهى السبوع....
و لم ينلني منه إلا أن تكرر على مسامعي ذلك التعليق-المستفز- الذي دائما ما ينتهي بـ"هع هع هع هع"

و لم تنتهي الخطط....
يما أقذف الآلة الحاسبة ناحيته,
و يوما أحاول فك صواميل سريه الهزَّاز,
و يوما أكتم نفسه مستعملا أكبر وسادة استطعت حملها...

و كلها كانت محاولات فاشلة..
فاشلة..
فاشلة...

يتبع إن شاء الله
أحمد ثروت
12/3/2010

الأحد، 14 فبراير 2010

Estimation الحلقة الثانية و الأخيرة

شدني الفضول؛ كيف يفكر ذلك العجوز؟؟

"استنى هوريك حاجة.".. أخرج أتوجراف من جيبه و فتحه على صفحة معينة:

"اقرا دي كدة"!!

الورقة مكتوب فيها:
"خالص تحياتي.. نجيب محفوظ."

"دي كانت في فندق سان ستيفانو -القديم مش اللي موجود دلوقت-, نجيب محفوظ لما كان ينزل اسكندرية يروح يقعد في كافتيريا الفندق هناك, شفته مرّة و عجبه طريقة لعبي فكتبلي الأتوجراف دا."

لعب لعبته الأولى..
"شايف التاريخ في الورقة؟ 1967... قبل النكسة"

هذا صحيح فعلا!!

"بعد الهزيمة قعدة القهاوي ما بقاتش تنفع, بصراحة كلنا كنا متضايقين و عاوزين نطلع غلنا في اللعب, يوميا كنا نتقابل عند واحد صاحبنا في (عمارة زوزو) اللي فيها (جيلاتي عزة) بتاع بحري دلوقت."

كان الدور قد انتهى فأخذ يمليني النقاط:
"ضيفلي العشرة بتوع الدور و العشرة بتوع الريسك و اضرب في اتنين, و اخصم من كل واحد منهم ضعف اللي طلبه, و اخصم لدا عشرين كمان فوقهم".
نفذت ما قاله و قمت بتفنيط الورق.

أما هو فغمزني قائلا:
"انت عارف إني ماتجوزتش؟؟"

صدمتني العبارة!!

"مع إن الجواز كان سهل قوي أيامينا, بس انا العمر فات بيا من غير ما احس, كويس إني ماجبتش عيال عشان مايعيشوش اللي عشناه"

****

"عبد الناصر اتنحى و طلعت مظاهرات, مات و قامت جنازة في مصر كلها, انتصرنا و فرحنا, و بعد النصر طلعت الجماعات الإسلامية و كانوا بييجوا يتشاكلوا معانا و احنا بنلعب, دا غير طوابير العيش و غلاء الأسعار و اغتيال السادات و ... و ..."
سكت هنيهة ثم تابع:
"جيلنا ياما شاف؛ عانينا بجد و قاسينا, لكن ماتزعش مني جيلكوا دا خايب؛ كل حاجة جاهزة فإيديكوا و شباب ضايع مالوش هدف و ..."

وجدت نفسي أقاطعه:
"فعلا؟؟"

!!!

و كأن اللعب توقف للحظة, و وجّه إليّ الأربعة نظرات امتعاض؛ فتلك هي أول كلمة أنطقها من أول اللعب, هذا غير النبرة الغريبة التي استخدمتها!!

لكن ذلك لم يثنيني عن الكلام:
"أيوة احنا فعلا شباب ماعندوش غير مشاكل بسيطة؛ شوية بطالة و غلا و زحمة و كوسة و ذل و توهان, أيوة احنا فعلا شباب ماعندوش هدف؛ و هيكون عنده هدف ازاي إذا كان ماعندوش قدوة!!
هيكون عنده هدف إزاي و اللي المفروض يوجهوه بيلعبوا في أفكاره و بيبيعوا احلامه!!

للاسف جيلكم انشغل بإنه يتاجر بأفكارنا و مبادئنا, انشغل بإنه يصفي حساباته مع نفسه و ماسبتولناش غير المشاكل....

بقى يا راجل كل الأحداث دي عدت عليك و انت قاعد تلعب؟؟؟؟!!!!
يمكن لو كنت انت بطّلت لعب و خرجت من باب الكافتيريا في يوم ماكانش دا بقى حالي...

دانتوا ورثتونا تركة تقيلة قوي!!"

نظروا إليّ واجمين, بينما نحيت أنا الورقة و القلم جانبا لأقوم من مكاني:
"شوفولكوا حد غيري يحسبلكوا... انا اللي فيا مكفيني!!!"

قلتها و توجهت خارجا من الكافتيريا

تمت
احمد ثروت
21/12/2009


الأحد، 7 فبراير 2010

Estimation الحلقة الأولى

لم أستطع اللعب معهم؛ لكن تكفيني مشاركتهم المجلس

لطالما شدني الجلوس إلى كبار السن مستعا إلى احاديث و ذكريات و خبرات... أستمع و فقط, كثريا ما تطربني نبرة صوت أحدهم الرصينة و هو يحكي عن (أيام زمان) فتبدو لي أيام عز بحق, اعيش بخيالي فيها فأرى نفسي مرتديا طربوش أميله على جنب و أمشي متبخترا في شوارع كرموز و اللبان, و ربما أركب الكارتة- من بحري للمنشية- مع فتاة في (ملاية لف)!!!

"معلش إنت اللي هاتحسب لنا, شد كرسي و تعالى جنبي ندردش مع بعض"
قالها أكبرهم سنا و أقدمهم عهدا بالإستيماشن, صلعته و بقايا شعره الأبيض يجذبونني نحو الدردشة معه..

أشعل هو سيجارته الأولى بيد مهتزة تناسب سنه الذي تعدى السبعين, و قمت أنا بتسطير الورقة لأحسب نقاط اللاعبين الأربعة.

"انت عارف؟" بدأ بها العجوز حديثه. " اول مرة ادخل الكافتيريا دي كان عندي 14 سنة- سنة 48-, سبورتنج ماكانش فيها غير النادي و الترام و كام بيت, و البحر كان قريب قوي لا نفق بقى ولا بتاع... ياسلام!!! أحلى لعب لما تكون قريب من البحر و بتسمع الراديو, انا على فكرة سمعت أخبار النكبة هنا- في الراديو دا-" يكمل ضاحكا " يومها أبويا عرف إني بادخن و باقعد على القهاوي... أخدت حتة علقة يومها.. مش عارف ليه مع إنه كان بيدخن برضة."

أطفأ سيجارته بنفس اليد المهزوزة, نظر مليا إلى ورقه ثم همس لي بخبث:
" انا هأدك الدور دا.."
و أعلن إلى زملاء اللعب: "تمانية تريفل"

تعجبت جدا؛ فورق ذلك العجوز لا يؤهله لطلب 8 تريفل و لا حتى لطلب واحد شاي!!!

" في الكافتيريا دي أنا عاصرت أحداث و حروب و مظاهرات, كل لما كنت أبص من بابها ألاقي مصر اتغيرت"

حملق جيدا في الورق المطروح؛ يبدو أنه يحفظهم و يلعب على أساسهم:
" لما سمعنا خطاب ثورة 52 كنا بنلعب و ما فهمناش حاجة؛ قلنا مين اللي بيتكلم دا" يقصد السادات " بعدها بتلات أيام اسكندرية كلها اتقلبت علشان الملك كان بيسافر برة البلد"...

****

بدا الامتعاض على وجوه اللاعبين الثلاثة؛ فقد نجح العجوز الماكر في دك الدور فعلا, أما هو -العجوز- فانتشى و أشعل سيجارته الثانية بيده التي هزها الزمان.
هو كذلك دائما؛ يحب أن يَخْسَر و يُخَسِّر من حوله...

"عدت علينا احداث و حروب و مظاهرات و احنا بنلعب, ما كناش بنلعب هنا بس, لأ, كنا بنروح حتت تانية, ساعات قهوة فاروق او بورصة المنشية, حتى ساعات كنا نتقابل في فندق سوفيتيل أو متروبولي في محطة الرمل"
ثم توجه إلى اللعب:
" باص كول"

شدني الفضول, كيف يفكر هذا العجوز!!!!

"استنى هوريك حاجة"

يتبع إن شاء الله
أحمد ثروت
21/12/2009