الاثنين، 27 فبراير 2017

غروب... قصة قصيرة


غروب

ما اسم هذا الكوبري؟ ما رقمه؟! ربما كوبري 6 أكتوبر, أو 15 مايو, أو 26 يوليو, أو 25 يناير, أو 30 يونيو, أو أي تأريخ لأي لحظة عبور فارقة. ما أكثر تواريخ العبور للمستقبل المشرق في هذا الوطن الرائع! عموما هذا الكوبري يمثل لي عبورا من محل وظيفتي الميري إلى العمل الخاص؛ أكل العيش. نسميها نحن الأطباء " الخدمة في البيوت". نخرج من مستشفانا الحكومي مع شروق الشمس لنتنقل بين المستشفى هذه و تلك بحثا عن المكسب, و أحيانا كثيرة بحثا عن ممارسة الطب التي حرمنا منها في الوظيفة الحكومية.

القاهرة في الصباح جميلة ومزدحمة. وكل أهل القاهرة هم دراويش على طريقتهم, كل شخص منفرد بأسلوب حياة مختلف. يرتدون ما يحلو لهم و يذهبون إلى أعمالهم, أو يحملون على ظهورهم بضاعة عجيبة و يتفننون في عرض مميزاتها و سعرها الزهيد على باقي الدراويش في المواصلات العامة. والبعض يظهر وسط هذا الصخب في هدوء ليمارس رياضة الصباح في قلب الشارع. أحد هؤلاء الدراويش أمسك أداة الرش وكتب على الحائط عند بداية المحور: "هل احتضنت ابنتك اليوم".  لله دره! ذكّرني مع شروق الشمس بأنني لم أر طفلتي منذ أسبوع. أحمل صورها وفيديوهاتها على تليفوني المحمول. هذه أحدث صورة أرسلتها لي زوجتي, و هذه صورة أول ضحكة, و صورة أول حبو, هذا الفيديو و هي تمسك بالأشياء لأول مرة, و هنا تحاول اختطاف التليفون من يدي أثناء التصوير. أسمع صوتها بجانب زوجتي في مكالماتنا الهاتفية, أسألها عن الألعاب الجديدة التي أحضرناها آخر مرة, و عن أنواع الطعام الجديدة التي بدأت تأكلها, أسنانها التي ظهرت, و سلوكياتها الجديدة.

دائما أحكي لزوجتي رغبتي في العودة من القاهرة و لو لساعات و تحثني هي على الصبر. مساكين هؤلاء الآباء الذين نمنعهم من رؤية أطفالهم بالرعاية المركزة لأيام, و أحيانا للأبد. مساكين هؤلاء الآباء الذين غيّب عنهم أبناءهم مظاليم خلف أسوار المجهول الأسود. كيف يبيتون لياليهم الطويلة و هم يحملون على قلوبهم أضعاف ما أحمله لمجرد غيابي عن البيت لأيام؟ مسكين أبي؛ كان يحثني دوما على السفر سعيا وراء العلم و الرزق ثم يبيت ليله مؤرقا لغيابي.

تلك الطفلة التي انتظرنا وفاتها عدة مرات لكنها كانت تحب الحياة أكثر مما نكرهها نحن أحيانا! مريضة بضعف شديد بعضلة القلب يتردد علينا أبويها الأميين الفقرين بين الوقت و الآخر. جسمها الصغير يرتشح بالماء فتأتي إلينا تبيت أياما حتى تستقر. تخرج ثم تعود بضيق بالتنفس, ثم تخرج فتعود باضطراب بضربات القلب, ثم بعدوى على الصدر, ثم بانقطاع البول... ثم أنه في كل مرة كنا نعلق أدويتنا و نجهز أقلامنا لكتابة شهادة الوفاة. ثم تتحسن هي و تخرج, و يموت طفل آخر؛ فجأة.

أبوها ممن أفقرهم كثرة الإنجازات و العبور للمستقبل, عامل بأجر زهيد في مكان يبعد عن مستشفانا مسافة ثلاث ساعات بتوقيت مواصلات القاهرة. لا يستطيع اللحاق بميعاد الزيارة الرسمية بالرعاية. ولا يستطيع الاستئذان من العمل لأنه مسئول عنها و عن أخواتها الكثر. كان يأتي إليها كل فترة يواسيها و يلاطفها و يدخل إليها أخواتها للحظات يلاعبنها, ثم يذهب بهن و يترك أمها تسهر عليها و يترك معها هاتفا محمولا لأي طارئ. يرجع لينام و يستيقظ صباحا ليبدأ عمله الذي يصرف منه على بناته.

تكرر حجزها بالمستشفى عدة مرات. و في كل مرة كانت تختفي ابتسامتها و حبها للحياة شيئا فشيئا. رأيتها و هي تبتسم و تلعب مع رفيقاتها في العنبر. و رأيتها و هي تصرخ من اليأس و من حياة الرعاية المرعبة و قد أذاب المرض شحمها فصارت عظما و جلدا. والداها صارحانا أكثر من مرة إن كان الأمل معدوما فلتخرج لتموت بين أهلها. لكننا كنا نهرب من إجابة طلبهم, ربما لأننا كأطباء لم نعتد أن نعترف بحقيقة أن المكتوب آتٍ لا محالة مهما فعل ذلك العبد الفقير الجاهل الطبيب. كان سجالا نفسيا وأخلاقيا للأطباء لكنه كان صراعا داخليا من نوع آخر للأب المكلوم.

جاء اليوم, و ألحت الطفلة بإصرار على الخروج. و جاء الأب و أخرجها بناء على طلبه. فقدت هي الرغبة في البقاء بالحياة الدنيا, و كدت انا أفقد الأمل في وطن ينفق الأموال و الجهد و العمر في الهدم ثم لا يجد منهم ما يعيد به بناء ما هدمه! فهمت الطفلة الحقيقة و استسلمت لغروب شمسها في الحياة الدنيا؛ أملا أن يكون لها في حياة أخرى.. شروق.

تمت
أحمد ثروت السعيد

28-2-2017