(أم نعمة) تحمل
(نعمة) منذ تسع سنوات.
عجبًا لهؤلاء القوم! يتفاءلون بالطير و يتطيرون بالفأل. من يبتلى منهم
في وليده يسمه (نعيم) و (نعمة), و من تعش له فلذة كبده يدعها (شحتة) و (أم
الشحات). دلق قهوتهم خير و قهقهتهم (ربنا يستر)... دروبهم في ذلك كثيرة حتى أنك لو
خالطتهم أنكرتهم و أنكرت جهلهم.
لا؛ بل هم يعرفون شيئًا لا نعرفه نحن! لا نعرفه فعلًا نحن الكتّاب
المصريون. بالمناسبة أنا لا أقصد بالكتّاب هؤلاء الأدباء الذين ينشرون الشعر و
النثر؛ إنما (الكتّاب المصريون) الذين أقصدهم هم المنتسبون إلى (الكاتب المصري)
القديم, أول من جلس القرفصاء واضعًا قراطيسه على فخذيه مسجلًا كل شيء حوله. و هكذا
نحن –ورثة الكاتب المصري- نجلس جميعًا لكن في أوضاع مختلفة مسجلين كل ما يحدث
حولنا... في المحاضرات و الدروس العملية. كل ما يقوله و يفعله المحاضر يتم تدوينه
بدقة متناهية حتى أنه لو أبعد ذبابة عن أنفه دوّناها.
ما هذا الهذي الذي نثرته أمامكم؟ و ما هي علاقة خزعبلاتي الفكرية تلك
بـ(نعمة) و (أم نعمة)؟ هاتان الشخصيتان هما من سهرت أحاول خط قصتيهما لعيون الأدب
فإذا بي آتي على ذكر استرسال عجيب.
فلأنم تلك الليلة و لأذهب في الصباح مرة أخرى لزيارة (نعمة) و أمها؛
علّني أجد خيطًا أنسج منه قصتي.
حياة نعمة كادت تنتهي ساعة ميلادها. شيء ما امسك برأسها أثناء رحلة
الخروج من رحم أمها. وقفت إزاءه الداية حائرة و لم بسعف الوليدة إلا حضور طبيب
الوحدة. كانت نعمة و أمها على شفا حفرة الموت لكن مهارة الطبيب أنقذت ما تبقى من
نعمة.
عاشت نعمة بعد ذلك بضمور شديد في المخ نتج عنه شلل بكامل الجسم و ذهول
شبه تام عما حولها؛ تأكل بصعوبة أو لا تأكل. جسدها إما منبسط على سرير و إما ملقى
على كتف أمها. لا تمشي و لا تجلس, لا تتكلم و لا تتفاعل. فقط تنظر إلى أمها و تنظر
إليها أمها.
(أم نعمة)؛ عيناها توحيان إليّ أنها تتحدث و تتفاهم مع ذلك الكائن
الصامت –ابنتها-. ربما هو قلب الأم الذي نسمع عنه, أو ربما قد أوتيت هي من العلم
ما لم تؤت نحن –كتبة القراطيس و حملة الأسفار-. و الأسفار في أيدينا قد قالت بأن
ننقذ المولودة نعمة حتى لو عاشت ساكنة. و أم نعمة تحمد الله و تقول: "نعمة و
فضل من عنده"... نعمة بين الحين و الآخر تطلق صوتًا كمن يهم بالبكاء فلا
يستطيع. و الغرب يتكلم هذه الأيام عن القتل الرحيم؛ يقول: "لو لم يتم إنقاذ
نعمة أثناء الولادة لحزنت عليها أمها عدة أشهر ثم تنسى و تحمل و تلد أخرى و أخرى..
لكنها –الأم- الآن قد حُكِمَ عليها أن تحمل على كتفها مخلوقًا يكبر حجمًا و لا
ينمو له عقل, مخلوقًا يدفعها كل فترة للبيات أيامًا في المستشفى الجامعي لأن نعمة
أصابها التهاب رئوي أو لأن كليتها المصابة قد آلمتها من جديد".
شيء غريب أن أجد نفسي مفاضلًا بين منطق امرأة فقيرة و بين كلمات
أطلقها بعض فطاحل العلم الغربي الحديث. و بين هذه و هؤلاء ترجح الأسفار كفة المرأة
دون أن تدري لماذا.
عجيب أمر تلك الفقيرة مع ابنتها؛ الجميع يتطلعون إلى الطفل المعافى كي
يلاعبه و يؤانسه. أما هي؛ فتجدّ في خدمة ابنتها المذهولة عن كل شيء. تفعل ذلك بكل
إخلاص و حب. آه لو رآها أبي و أمي؛ ما كانوا ليندموا لحظة على (خلفتهم).
أذكر أنني في مطلع سن المراهقة بدأت أختلف مع أبي و أمي؛ خصوصًا أبي.
كنت أراه شخصًا قديمًا لا يستطيع استيعابي أو استيعاب أفكاري. أحيانًا كنت أراه
عقبة في طريق طموحاتي و مواهبي. و أحيانًا هو كان يراني نبتًا ضعيفًا يوشك أن
يفسد. لا أنا قلت له ما أراه و لا هو قال لي رأيه.
في سن الابتدائي؛ لم أكن أعرف أن أبي عندما يثور عليّ في الصباح
فيحزنني كان يتتبع أتوبيس المدرسة –دون أن أراه- حتى بوابة المدرسة. يقف من بعيد
منتظرًا كي يراني خارجًا من باب الأتوبيس فيطمئن أنني لم أعد محزونًا مما حدث.
الحقيقة أنني فعلًا لم أكن أعرف ذلك؛ لكنني في نفس اللحظة التي يراقبني فيها أبي
من خلف الشجر يأتيني خاطر بأن أبي هو الأفضل.. الأفضل على الإطلاق.
هل ما أكتب هو قصة نعمة أم قصتي أنا؟ أنا لا أعلم.
********************************
مؤخرًا اكتشفت أن الحال التي نكون عليها – أنا و أبي- في خلافاتنا لم
تندثر. فقط تغيرت الصورة بتغير الزمان و المكان و الأدوات؛ اختفى الأتوبيس و ظهر
التليفون المحمول. صرت أنتظر تلك المكالمة الهاتفية أثناء المحاضرة أو الدرس
العملي. أرد فتأتيني من الناحية الأخرى كلمات قليلة في أي موضوع.. فقط تكون
للاطمئنان على نبرة صوتي.
غريب أمر الأبناء مع آبائهم؛ الابن قد يعميه عنفوان صباه عن رؤية
الأيادي البيضاء التي يسديها الأب إليه. و الأب قد يرمي بخوف الكهول الذي بداخله
العقبات أمام ابنه. نعمة مثلًا؛ أظنها تسأل نفسها ألف مرة –بلغتها الخاصة- عن
أبيها؛ لماذا لا تراه في المنزل إلا منهكًا بالليل؟ و لماذا لا تراه في المستشفى إلا
مع دخولها و خروجها؟ نعمة لا تعرف قريبًا لقلبها مثلما هي أم نعمة؛ هي من تحملها و
تتحملها. هي من تبيت معها ليلًا و لا تفارقها نهارًا. أما أبوها؛ فهي تراه بين
الحين و الآخر. قد يطبع على خدها قبلة و قد لا يطبع.
شاء الله أن يكلفني أستاذي في الجامعة بالذهاب إلى المستشفى التعليمي في
المساء لمتابعة حالة نعمة؛ أقيس حرارتها و ضغط دمها و نبضها.. إلخ. كالعادة
استقبلتني أم نعمة و ظلت معنا طوال فترة الكشف تحدثني تارة و تساعدني الأخرى. بدأت
تخبرني عن السعال الذي زاد عن الأمس؛ ربما يكون أنبوب التغذية الموصول بنعمة هو
مسبب ذلك. لكن أم نعمة أضافت أن مخاطًا قد صاحب السعال و أن الطبيب المناوب قد طلب
إجراء أشعة على الصدر في الصباح الباكر. بدوري وضعت السماعة على ظهرها و سمعت
قرقرة الهواء حين يخالط المخاط في حويصلات رئتيها. طمأنت أمها بأنهم سيصفون
لابنتها في الصباح المضاد الحيوي المناسب للحالة و أنني سأمر لأطمئن عليها غدًا.
هي بالتأكيد تعرف تلك الكلمات, لكن عليّ في تلك المواقف أن أقول شيئًا.
بينما أنا خارج من بوابة المستشفى قابلت أبا نعمة –أنا أعرفه و هو
يعرف أنني أتابع حالتها-. هو رجل بسيط قادم مهرولًا في الليل البارد يحمل في يديه
طعامًا و أدوية. رحّب بي جدًا و رحّبت به ثم حكى لي بالتفصيل حالة ابنته. طمأنته
كما فعلت مع أم نعمة فتركني مبتسمًا و هو يدعو لي. دخل هو المستشفى و مضيت أنا إلى
منزلي. أتخيله حين دخل قد قابل أم نعمة على باب العنبر ليعطيها الطعام و الدواء ثم
يدخل خلسة ليطبع قبلة على خد ملاكه النائم.
لو نعرف –نحن الأبناء- كيف يبدو آباؤنا حين يتحدثون عنا في غيابنا!
*****************************
أسوأ ما في الفشل هو أن تراه في أعين من تحبهم.
في لحظات الفشل الكثيرة لا أرى إلا شيئًا واحدًا؛ نظرة عينيّ أبي. و
في لحظات النجاح –قيل لي أنها كثيرة أيضًا- لا يفسد عليّ سعادتي إلا أن أرى أبي
مذهولًا عني لا يشعر بوقع النجاح.. هم كذلك الآباء؛ ينحصر مفهومهم عن النجاح عند
شيء واحد و فقط.. يعدون أي شيء آخر تضييع وقت.
يقولون –من يقولون- أن الآباء يدفعهم دائمًا في ردود أفعالهم حرصهم
على أن يجنبوا أبناءهم مصائب الحياة, و أن يسلكوا –الآباء- بأبنائهم المسلك القويم
نحو الرفعة.. من يقولون تلك الكلمات لم يقل منهم أحد يومًا أن التاريخ البشري لم
يشهد طوال تاريخه ابنًا جعل غاية مناه أن يخيب أمل والده فيه.
المشكلة في مهنة الطب أن استسلام عقلك لمثل تلك الخواطر المحبطة تعني
التضحية بحياة إنسان أو اثنين أو أكثر. ها هي نعمة بين يديّ مرتفعة الحرارة و تسعل
بشدة. تمر أمامي تلك الزميلة فأتذكر وقتما كانت أملًا لي ثم انطفأ. ذلك الشخص هو
من كان في يوم لي صديقًا. صورة أبي و أمي حين ودعتهما صباحًا تضايقني. تذكرني
الصورة بذلك (التليفون) الذي جاءني منذ زمن بعيد يحمل الأخبار المحزنة. أصرف كل
تلك الهواجس و أنظر إلى نعمة و أمها و أبيها الواقف على باب العنبر, و أجتهد في
تذكر اسم المضاد الحيوي اللازم لنعمة أو حتى أي من الفحوصات المطلوبة فلا أفلح.
توقف عقلي عند نقطة واحدة كنت فيها صغيرًا و لم أكبر بعدها؛ أو ربما قد كبرت فجأة
فصدمت.
أنا من أوقفت عقلي بيديّ؛ كأن قد كانت معي عملة معدنية استصغرتها و
ألقيت بها بين تروس عقلي فأعطبتها.
نعمة لم تعد مجرد حالة بالنسبة لي. نعمة و أمها و أبوها هم ثلاث صفعات
نزلوا على وجهي دفعة واحدة علّني أفيق قبل فوات الأوان. نعمة –بمخاطها الأخضر و
بولها الأحمر الخارج عبر القسطرة- هي أسلوب حياة. كذب من قال أن في حياتنا المعاق
إطلاقّا و المعافى إطلاقًا. كلنا معاقون.. كلنا معافون.
المضاد و الفحوصات و نعمة.. أين الطبيب المناوب؟ يا طبيب؛ نعمة تهم
بالبكاء فلا تستطيع. و أمها تحتضنها و تدعو الله أن تتعافى حتى تنير حياتها؛
تنيرها و هي محمولة على كتفها لا تنطق. و أبو نعمة تبعده عنها المسافات؛ مسافة بين
باب العنبر و السرير, و مسافة تُصْطَنع دومًا بين الآباء و الأبناء. مسافات
كالقفار ما إن تطل منها حتى ترى من بعيد جدًا أبًا حنونًا يكاد ينهار لما أصاب
فلذة كبده.
الطبيب المناوب هنا و حوله جنوده. انصرف كتبة القراطيس و حملة الأسفار
للدرس إلا أنا, نحيت قراطيسي و أسفاري جانبًا و بقيت أدعو و أساعد.
******************************
هل (نعمة) و أمثالها هم قصص نرويها لتدغدغ مشاعر العطف فيمن حولنا؟ أم
أن لهم عندنا مضادات حيوية نتذكر أسماءها, و فحوصات نطلبها بالشكل السليم, و مهارة
جراحية نتقنها؟ أتراني قد أديت ما عليّ تجاه نعمة إذا سطرتها في عدة صفحات بخط
جميل؟ هل إذا كتبت (نعمة) سأكتبها حقًا؟ أم أكتب نفسي؟
كثيرة هي تلك الأحيان التي يستوجب عندها ان تصرخ في القصة أن اصمتي!
تكفيني من كتابة نعمة و أمها قصة قصيرة –قصيرة- تنافس في القِصَر خطبة (يوليوس
قيصر) الأوجز عبر التاريخ.
القصة تقول:
"يلتقي الطبيب بمريضته و يتعلم منها شيئًا ما يخرجه من دائرة
القنوط المميتة و ينبه ذهنه إلى التحفز استعدادًا للحظة التي يأذن فيها الله
لحكمته أن تأتي بالفرج. يحل الأخير بحياته و يرتفع بها و به حتى يصير ما
يصير". تمت
تمت: أحمد ثروت السعيد 7/4/2012
