السبت، 28 أغسطس 2010

خمَّارة الشيخ خالد!! الحلقة الأولى



"ليس كل ما يلمع ذهبًا"

هي أصدق كلمة يقولها (الشيخ خالد) لأهل منطقته؛ كثيرًا ما يبدأ بها حين يأتي أحدهم شاكيًا و طالبًا النصيحة: "أعمل إيه يا مولانا؟"

شيخنا هو أحد قاطني (عزبة سكينة) على أطراف الأسكندرية, و هو في نفس الوقت إمام لمسجدهم؛ مما أهَّله -بجانب علمه الغزير و سعة إطلاعه- إلى أن يضحى موضع ثقة أهل العزبة البسطاء و مستودع مشاكلهم و أسرارهم, هو لهم القدوة و القيادة, كلامه مصدق عليه و نور وجهه يشيع الطمأنينة و البركة أينما حل.

بمخيلة كل أب في العزبة أن يرى ابنه في مكانة (الشيخ خالد) العالية؛ و لذا كانوا يرسلون له الأطفال الصغار ليحفظهم القرآن الكريم و ليعلمهم من علمه و ينشئهم على حب العلم و الأخلاق الحميدة...

لكن......


كان الشيخ خالد يمتلك بيتا صغيرًا في العزبة يتكون من طابق علوي واحد وحانوت صغير مغلق, ما انفك شيخنا يرفض بتاتا أن يبيعه أو حتى يؤجره لأحد سكان العزبة, و ذلك الموقف بالذات احتار فيه الناس؛ فما يلبث أحدهم أن يذكر ذلك الحانوت حتى يكفهر وجه شيخنا و يعرض قائلا: "المحل دا بتاعي و مش هاقدر أبيعه".

لكن موقفه الغريب لم يمنع أهل العزبة أن يرددوا في قرارة أنفسهم أنه "فاهم أكثر منهم" و أنهم لن يستطيعوا أبدا مجاراة عقله الراجح و حكمته الواسعة في الاحتفاظ بالحانوت لنفسه, و لم يمنعهم ذلك أيضا من اللجوء إليه في كل مشاكلهم و التبرك به في مناسباتهم.

لم يتزوج الشيخ خالد أبدًا!! و كان حجته في ذلك أنه مشغول عن الزواج, و كان حجة أهل العزبة في تصديقه عقله الراجح و بعد نظره حتى أنه يرى ما لا تدركه عقولهم البسيطة.

لكن ليس ما قيل هو كل الحقيقة!!

فضَّل الشيخ خالد أن يعيش وحيدًا لأنه لن يجد أبدًا من يأتمنه على سره الذي عاش به و عاش له؛ فما يكاد (الشيخ خالد) ينعزل عن العالم و يدلف باب شقته حتى يخلع عنه عِمَّته و قفطانه و يبدو عليه الخوف و التردد حتى لكأن نور وجهه قد انطفأ, و بعد فترة من المقاومة يجد نفسه دالفًا إحدى الغرف في شقته, لا يضيء أنوارًا لكنه يسحب البساط من على الأرض فيظهر سلم خشبي يؤدي إلى أسفل, يهبط السلم وجلًا حتى يصل إلى آخره؛ و كان آخره هو الحانوت المغلق!!!

يضيء الشيخ مصباحا خافتا بيد مهتزة و قلب يرتعد, حتى إذا وقع بصره على (بار) خشبي متهالك في أحد الأركان انكب عليه يصب لنفسه من كل الزجاجات المرصوصة و يشرب بنهم كي لا يترك لنفسه فرصة للتراجع أو العودة, و هو مع كل كأس يبكي و يزداد بكاؤه حتى يوشك على الانتحاب لكنه يكتم صوته كي لا يشعر به المارة بالخارج.

و يظل شيخنا على تلك الحال معظم ليله؛ باكيًا مهتزًا, و هو في ذلك يصب الكأس تلو الكأس, و حين ينتهي به الصراع يطفئ المصباح و يهرول على سلمه ضاربًا رأسه بكفيه و باحثًا عن بعض الماء يغسل به وجهه حتى يستفيق....

يتبع إن شاء الله
أحمد ثروت
7/2010