الخميس، 16 سبتمبر 2010

خمارة الشيخ خالد.... الحلقة الثالثة


دعونا أولا نتعرف عن قرب بـ(خميس حمو), (حمو) هو أحد الأعضاء الفاسدة في مجتمع العزبة, شديد السخط على حياته و رفيق دائم لأصدقاء السوء, لا يعرف لنفسه مهنة محددة لكنه امتهن -لفترات من حياته- بعض الحرف و له خبرة لا بأس بها في تصليح السيارات... خاب أمل والده فيه و كثيرا ما طرده من بيته حتى اضطر اخيرا لتزويجه لعل الزواج و مسئولية الأبناء يصلحان من حاله.
خميس الآن عاطل, و قد قرر الانقضاض على حانوت (الشيخ خالد) ظنًا منه أنه يخفي كنزًا ما...
*******
في الصباح؛ استيقظ أهل العزبة على خبر مشاركة الشيخ خالد لخميس حمو بورشة لتصليح السيارات تقام بحانوت الأول و يديرها الأخير, و الحق يقال تعجب الناس و أوغلوا في تعجبهم؛كيف يشارك شيخنا الجليل ذلك اللص (خميس حمو) المعروف ببلطجته و سوء سلوكه؟! كيف رفض الشيخ كل العروض المغرية لشراء حانوته من قِبَل أعلى أهل العزبة ورعًا و أفضلهم سمعةً ثم يوافق أن يشارك ذلك اللص؟! ربما رأي شيخنا الحكيم أن يفتح بابًا للرزق الحلال أمام ذلك الشاب الضائع في دروب الحرام...
فتح الله على شيخنا الجليل و وهبه حسن ثواب عمله!!!
مضى أهل العزبة يباركون للشيخ و يدعون لخميس بالهداية -و إن استبعدتها عقولهم- فذيل الكلب قلما ينعدل؛ كذلك قالوها.
و الحقيقة أن اهل العزبة لا يعرفون شيئًا عن المفاوضات الشاقة التي جرت الليلة الماضية بين الشيخ خالد و بين خميس, ذلك أنه حينما دخل الأخير الحانوت و اطلع على حال الشيخ قرر أن يستغل السر الذي عرفه و ظل يساوم الشيخ و يضغط عليه حتى قَبِل الشيخ أن يشاركه بورشة يديرها خميس في مقابل أن يحتفظ له بزجاجاته داخل دولاب بالورشة لا يملك مفتاحه إلا الشيخ, فإذا دقت الساعة الثانية عشر تُغلَق الورشة و يهبط الشيخ سلمه الخشبي ليشرب ما يحلو له.
أليس (خميس حمو) لصًا مبتزًا؟ بالتأكيد ذلك الموقف المستغل من ذلك الشخص الصعلوك ينم عن إضمار نية السوء بابتزاز الشيخ المسكين.
لكن الواقع كان شيئًا آخر تمامًا...
*******
بات (خميس حمو ) ليلته الاولى يفكر فيما رآه من سر (الشيخ خالد)؛ فها هو الشيخ الجليل -الذي طالما مجَّد أهل العزبة في ورعه و زهده و حسن سيرته- ها هو و قد أضحى كاللعبة التي نخرها سوس المعصية, ها هو رمز الفضيلة و قد استهوته الشياطين في الأرض حيران.
يا لها من دنيا رخيصة فاتنة توقع في شباكها كل من يبحث عن لذة الساعات القليلة!!
أما فيما يخصه -و هو خميس حمو الصعلوك صاحب السيرة السيئة- فقد أحس أن الله قد فتح له بابًا للرزق في صورة ورشة تعينه على التوبة و الرجوع, إن الله قد أتاح له الفرصة و أراه من آياته في قصة (الشيخ خالد) حتى يعود إليه رجلًا صالحًا يتكسب قوت يومه و أولاده بالحلال و يصلح في الأرض, صحيح أن مشروعه قام -أساسًا- على مساومة الشيخ لكن خميس عزم في قرارة نفسه أن يراعي الله في رزقه و ألا يغش أو يخدع في عمله.
اما( الشيخ خالد) فبات ليلته يحترق كمدًا و غيظًا من ذلك السخيف الذي اخترق حجاب سره و فضحه امام نفسه, و لم يكتف بذلك بل ساومه و شاركه بحانوته, و نغَّص عليه شهوة معاقرة الخمر باتفاق ثقيل الظل يمنعه من الشرب قبل منتصف الليل؛ فإذا انتصف هذا الليل أو ذاك اضطر الشيخ إلى إشباع شهوة الشرب في مكان يعب برائحة البنزين و زيت السيارات.
و مع تفكير (الشيخ خالد) المستمر و احتراق قلبه بما حدث لم تنتهِ ليلته حتى ازدادت عليه آلام التليف الكبدي المبرحة و ارتفع ضغطه البابي حتى انه جرى نحو باب شقته يتقيأ دمًا و يستغيث بأهل العزبة الذين نقلوه بأسرع وقت إلى طبيب المستوصف.
*******
يومًا بعد يوم راجت ورشة التصليح التي اعتمدت في الأساس على تصليح أعطال السيارات التي تدخل الأسكندرية من ناحية العزبة, و مع رواج عمله تحسنت حالة (خميس) النفسية و بدأ يعود قليلًا قليلًا نحو الطبيعة السوية المخلصة, و صار له في قصة (الشيخ خالد) أبلغ العبر فيمن تحتنكه شهوته و نفسه الأمارة بالسوء بعيدًا عن الصراط المستقيم.
كثيرًا ما دعا (خميس) للشيخ المسكين و أشفق عليه...
مع كل شخص يهم بتقبيل يد الشيخ الفضل.. يشفق عليه
مع كل جملة وعظ يلقيها الشيخ من فوق المنبر على أسماع و قلوب الناس.. يشفق عليه
مع كل ابتسامة سماحة يخفي وراءها وحهًا مظلمًا.. يشفق عليه
مع كل مرة يمر الشيخ من أمام الورشة و ينظر إليه مستعطفًا أن يوصد أبوابها و يمضي ليخلو هو مع سره... يشفق عليه.
و لم يستطع (خميس) أن يتخلص من التأمل في حالة الشيخ, و شغله ضميره حتى في أوقات راحته في منزله؛ فاتخذ في نهاية الأمر قرارًا و عزم على تنفيذه....
قرر أن ينغّص على (الشيخ خالد) شربه؛ فبات يتعمد إبقاء الورشة مفتوحة حتى ساعة متأخرة, و أحيانًا يتعمد وضع معدات ثقيلة أمام دولاب الزجاجات كي يصعب فتحه على الشيخ, بل إنه حاول في مرات أن يسدي النصح للشيخ و أن يحرجه أمام نفسه.
*****
في صباح أحد الأيام ذهب (الشيخ خالد) إلى الورشة مغاضبًا و قد بدا عليه آثار السهر و الأرق و تنطلق من عينيه شرارات الغضب لتضيء وجهه المكفهر؛ و ذلك لأن (خميس) قد ألقى بمحرك سيارة من السيارات عند باب الدولاب و تركه, و حاول الشيخ المريض طوال الليل تحريك ذلك الشيء دون جدوى؛ فلم يعِ حتى طلع الصباح و فُتِحَت الورشة فهرع إليها مغضبًا مقبوضًا كأنما يصَّعد في السماء, و لما رأى خميس أمامه انفجر فيه مستنكرًا و متوعدًا ثم تطور الجدال حتى علا صوتهما و تجمع الناس ينصرون الشيخ الذي تمادى في سباب مفزع وجَّهه ناحية خميس, أما خميس فأخذ يلوح بسر الشيخ دون أن يصرح به؛ مما أوقع بالشيخ في براثن اللعثمة و الهمهة ثم مضى يقسم بأغلظ الأيمان ليفعلن بخميس ما يجعله يندم على فعلته تلك...
عاد الشيخ إلي شقته مرعوبًا بعد أن لوح خميس بأنه قد يفشي سره في أي لحظة, و صارت العقبة الكئود التي يتمنى الشيخ لو تخلص منها هي (حمو)...
و صار لزامًا عليه أن يفعل المستحيل ليتخلص من تلك العقبة....
بات الشيخ يفكر....
و يفكر....
و يفكر...
******
في الليلة التالية عاد الشيخ لبيته و قد اشترى قفطان جديدًا بدلًا من قفطانه المتسخ!!!

يتبع إن شاء الله
أحمد ثروت
9/2010

الثلاثاء، 7 سبتمبر 2010

خمارة الشيخ خالد... الحلقة الثانية



ينهض (الشيخ خالد) ليؤم الناس في فجرهم, و قد يقرأ بهم آية (لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى), ثم يمضي بعد أن يصافحه المصلون من أهل العزبة و يقصدونه في حل مشاكلهم و مسائلهم التي لا تنتهي, و يظل شيخنا مجاهدًا كل ذلك حتى يصل إلى بيته لينام بضع ساعات قبل صلاة الظهر.

مرت على الشيخ أيامه و لياليه؛ يرفض بيع الحانوت في يومه و يرتاده في ليلته, و قد تمر عليه أوقات يود فيها لو استطاع تحطيم (البار), بل إنه أحيانا يعقد العزم على ذلك؛ فإذا ما امتنع لليلتين أو ثلاثة تجده في الليلة التالية مهرولًا منتكسًا....

*****
في يوم من أيام الشيخ -و بينما هو خارج من مسجده مع بعض أعيان العزبة- نشبت مشادة بين أحد رفقائه و بين واحد من الشباب المعروف عنهم سوء الخلق يدعى (خميس حمو), و حدث أن تطورت المشادة إلى حد العراك بالأيدي أمام (الشيخ خالد) الذي اضطر إلى التدخل و نهر (خميس) عن فعلته و أسمعه كلاما قاسيا عن احترام الكبير و حسن الخلق, ثم ختم كلامه بأن ما فعله (خميس) أمام الناس دليل على أنه لا يراعي حق الله حين يختلي بنفسه!!!

استشاط (خميس حمو) غضبًا من كلام (الشيخ خالد) و أقسم بأغلظ الأيمان ليرين الشيخ من الأفعال ما يجعله يندم على كلامه ذاك, فبهت الناس من جرأة (خميس) و هموا أن يتكالبوا عليه ليفتكوا به, أما شيخنا فوقف مكانه مبهوتا لا يلوي على شيء و أحس بألم شديد في جانبه الأيمن مما دعاه أن يفض العراك و يتحرك نحو بيته مستندًا على بعض شباب العزبة.

و بعد تلك الحادثة لاحظ أهل العزبة اصفرارًا و احمرارًا في عيني الشيخ, إلى جانب تكرار آلام جانبه الأيمن عدة مرات, فنصحوه أن يرتاح قليلا و ألا يرهق نفسه في قراءة الكتب الفقهية و قيام الليل بالكامل -كما ظنوه فاعلا- كما نصحوه أيضا بزيارة الطبيب.

و أمام إلحاح أهل العزبة و خوفه من موت يفاجئه زار الشيخ الطبيب, و بعد إجراء الفحوصات اللازمة أخبره بوجود تليف شديد بالكبد, عرف الطبيب أن سبب التليف هو تناول الكحوليات لكنه لم يصدق نفسه و لم يجرؤ على نطقها...

و يوما بعد يوم تزداد على شيخنا آلام جانبه الأيمن, و هو يزيدها بمزيد من الشرب, بالتأكيد حاول بشتى أنواع المدعمات و الأدوية إيقاف آلامه لكنه فشل في منع السبب الرئيسي.

و مع الوقت اعتاد حياته المرضية الجديدة و عاد يؤم الناس و يخطب فيهم يوم الجمعة عن خشية الله في السر و العلن, و يلقي الدروس الدينية يوميًا عن العبادات و السيرة و الحديث... إلخ

الخلاصة أنه عاد لارتداء قناع الشيخ الذي اهتدى على يديه كثير من البسطاء.

أما فيما يخص شربه للخمور؛ فقد قلَّ وجله شيئا فشيئا حتى انكمش, و لا يمنع ذلك أنه كثيرًا ما كان يضرب نفسه ألف قلم و قلم على فعلته الشنعاء.

مرت حياته هكذا دواليك حتى عاد ليلة إلى بيته و خلع عِمَّته و قفطانه و ولج الغرفة اللعينة ليزيح البساط و يهبط السلم و يضيء المصباح و......

و لم يجد نفسه وحيدا!!!

ما كاد يلتفت حتى رأى (خميس حمو) أمام وجهه..

تسمر الإثنان في أماكنهما.
و كلاهما أسقط في يديه...

يتبع إن شاء الله

أحمد ثروت
7/2010

re-written 9/2010