الاثنين، 30 مايو 2011

محنة الدستور


من تدابير القدر أن أقرأ في الأيام الماضية كتاب (محنة الدستور) للكاتب الصحفي الكبير محمد زكي عبد القادر. هذا الكتاب – الذي صدر عام 1955- يسرد فيه الكاتب رؤيته لفترة مهمة من تاريخ مصر؛ هي الفترة بين ثورة عراب 1881 م و حتى ثورة الجيش 1952 م محاولًا هو بذلك استقاء الفائدة من التجربة الديمقراطية لدستور 1923 م و للحياة السياسية التي تبعته من أجل التعرف على أسباب فشل تلك التجربة.

يقول الكاتب الكبير في مقدمة كتابه:

"هذا الكتاب وحي أمل في مستقبل مصر, و نبع قلب وعى الحوادث. و قلم عاش معها بكيانه....

و قد ضللنا في كثير من الأحيان معالم الطريق, و لكن وحي الفطرة السليمة في ضمير هذا الشعب هداه دائمًا – حتى و هو في أشد عهوده ظلامًا- إلى حيث ينبغي أن يسير.

و لكم أرجو أن تتيح لي الظروف القيام بدراسة أوفى للسياسة المصرية خلال العشرين سنة الماضية, فأن مثل هذه الدراسة أعظم ما تكون فائدة في كشف معالم الطريق للمستقبل, و حسبي الآن أن أقدم هذه اللمحات الموجزة..... إلخ"

الكتاب بحق وجبة دسمة جدًا و يمتلئ بالمواضع الغنية بالعبر و الجديرة بالنظر و التمعن و الاعتبار. خاصة مع الحديث عن إعلان دستور 1923 م و ما تعرض له من خروقات و تشويهات على مدار سنين طويلة. مرجعًا –المؤلف- أسباب فشل التجربة إلى الالتفاف على حكم الشعب و تعطيل الأحكام الدستورية و يلقي باللوم على كل من سمح بأي استثناء دستوري ساهم في تهميش قرار الشعب.

يتحدث الكاتب عن الانتخابات البرلمانية التي أعقبت إعلان الدستور مباشرة فيقول:

" و اكتسح الوفد المعركة اكتساحًا لم يسبق له مثيل"

"و كانت هذه الانتخابات بمثابة حكم أصدره الشعب على القيم الحقيقة للأحزاب, و القوى التي تقدمت تلتمس ثقته."

ثم يتحدث عن موقف المعارضة من الوزارة التي شكلت حينها قائلًا: "و مما يؤسف له أن المعارضة لم تتجه في كل الأحوال إلى الشعب, بل اعتمدت على القوى الخفية المناهضة للوزارة البرلمانية."

و يختتم الكاتب هذا الفصل بتلك الجملة: "و مهما يكن من أمر فإن هذه الحقوق التي حصل عليها الشعب في فجر الحياة البرلمانية, و كان المتوقع أن تزداد و تثبت و تتسع قد ألغيت فيما بعد, بل و حصلت السراي على حقوق أخرى ساعدت على هدم الحياة الدستورية و إضعافها إلى حد, كبير."

ثم ننطلق مع الكاتب في رؤيته للأحداث الجسيمة التي أعقبت ذلك, و هي كثيرة لكننا سنختار ثلاثة رجال تحدث عنهم الكاتب بشيء من الاستفاضة و كأنه يٌحَمِّلهم الكثير من ذنب تدمير الحياة السياسية في مصر. هؤلاء الثلاثة هم بالترتيب: محمد محمود, و إسماعيل صدقي, و أخيرًا علي ماهر. هؤلاء الثلاثة تولوا رئاسة الوزراء في ظروف ضربت بالدستور عرض الحائط لأن كلًا منهم جاء إلى سدة الرئاسة دون أن يكون له أي رصيد جماهيري لدى الشعب بل تم تصعيدهم لذلك المنصب نكاية في الأغلبية و خرقًا صريحًا لمواد الدستور.

المثير أن الكاتب لم ينف عن هؤلاء الثلاثة فضيلة الوطنية و الكفاءة. بل إنه افترض أن دافع هؤلاء كان رؤيتهم الخاصة بأن ما يفعلونه هو الصالح للبلاد ناسين بذلك أن الأشخاص زائلون و الوطن باقٍ.

فلتناول حديث الكاتب عن وزارة علي ماهر التي أعقبت تولي الملك فاروق العرش حيث يقول فيما بخص موقف علي ماهر تجاه الأغلبية:

" و الذي لا شك فيه أن علي ماهر لم يكن ذا اتجاه شعبي, بل لعله كان يشعر أن أصحاب الأغلبية الشعبية مفسدون يحسن اقصاؤهم عن حقهم الدستوري. و لما لم تكن له وسيلة للحصول على التأييد الشعبي فقد جعل وسيلته التوسيع في سلطة الملك الشاب.... , و من ثم يستطيع أن يهييء لنفسه الفرصة للحكم و إخراج آرائه في الإصلاح إلى ضوء التنفيذ."

ثم يقول الكاتب هذه الجملة المهمة:

"و لن يستطيع أحد أن يلتمس له العذر في سياسته بحجة أن الأغلبية الشعبية كانت تخطئ أو تسيء التصرف فيما منحت من سلطة. فإن هذه الأغلبية مردها إلى الشعب و إذا كانت الأغلبية في وقت من الأوقات مخطئة فإنها لن تدوم أبدا و سينتبه الشعب إلى أخطائها, و يحرمها من ثقته ثم يعطيها إلى من يستحقها. و كل دساتير العالم تعثرت. و كل الشعوب أخطأت ثم تعلمت."

و نهاية يُجْمِل الكاتب ما جناه هؤلاء الثلاثة في حق الوطن و يختتم كلامه في تلك النقطة بفقرة خطيرة و مهمة جدًا لخص فيها سبب المأساة فيقول:

"و سيروي التاريخ عشرين سببًا لانهيار النظام الملكي. و سيحمل فاروق و تصرفاته الأخيرة أثقل التبعات, لكن الإنصاف يتطلب أن نرجع بالأدوار إلى أصولها و المتاعب إلى اليوم الذي بدت فيه و كأنها بريق الأمل و الإصلاح, و إلى الرجال الذين, مهما تكن نياتهم حسنة, فقد حكموا على الأمور حكمًا شخصيًا محضًا, و جعلوا مصالحهم و آراءهم الخاصة في قاع تفكيرهم و هم يقررون مصير شعب بأسره, جيله الذي مضى و أجياله القادمة.

و لو آمنوا أن السلطة في يد الشعب لا خوف منها, حتى و لو أساء استعمالها, لما وقعوا فيما وقعوا فيه من أخطاء و لتغير تاريخ الكفاح الدستوري, بل لتغير تاريخ النظام الملكي كله في مصر."


كانت هذه عبرة حاولنا استخلاصها من التجربة الديمقراطية تلك لعلها تعيننا, هي و غيرها من العبر, على الاجتياز بتجربتنا الديمقراطية الوليدة إلى بر الأمان. اقرءوا هذا الكتاب و غيره من صفحات التاريخ لعلنا نجد فيهم الكثير و الكثير.

تمت

أحمد ثروت السعيد

29/5/2011


الأحد، 8 مايو 2011

غسيل في بلكونة مواطن

الكورتيزون مادة موجودة داخل جسم الإنسان تعمل على توازنه على مدار اليوم. و هو أيضًا أحد أشهر الأدوية و أوسعها انتشارًا و من أكثر ما يساء استخدامه في عالم الطب. الكورتيزون بالمناسبة ليس علاجًا شافيًا -إلا مع أمراض بعينها- لكنه يستطيع بفعل خصائصه السحرية طمس أعراض المرض عن طريق إضعاف رد فعل الجهاز المناعي تجاه مسبب المرض فيشعر المريض بالتحسن لبعض الوقت نتيجة اختفاء الأعراض دون أن يكف مسبب المرض عن العبث داخل الجسم. بالطبع لا يحدث هذا مع كل الأمراض لكن مع قطاع كبير منها.

المهم احتفظوا بتلك المقدمة في أذهانكم لأني سأعود إليها بعد أن أحكي لكم عني أنا و صديقي محمود حين كنا نتضاحك في يوم من أيام الثانوية و نحن نستحضر خطاب السادات الذي قال فيه: "غسيل في بلكونة مواطن بينقط على غسيل في بلكونة المواطن اللي تحتيه.. و الظاهر إنها كانت ميّة مش ولا بد.. إلخ" كنا نتعجب من ذكاء الرئيس السادات و قدرته على المرور من أزمة الفتنة الطائفية بخطاب عجيب عرفنا فيه لأول مرة أن (الغسيل ممكن ينقط ميّة مش ولا بد)... "هو فيه غسيل في الدنيا بينقط ميّة مش ولا بد برضه؟" قالها صديقي محمود.

هكذا أعطى السادات أول جرعة كورتيزون للشعب المصري, و استطاعت الجرعة إخماد التهابات الفتنة الطائفية دون أن تقضي على مسبب المرض.

و كأي مريض يتناول الكورتيزون؛ ارتاح الشعب المصري لاختفاء العرض و شرع الحكام على مدار أربعين عامّا إلى تكرار جرعات الكورتيزون؛ ربما لأنهم لم يمتلكوا شجاعة وأد الفتنة الطائفية في مهدها استخدموا قبلات الشيوخ و القساوسة و الاحتفالات المشتركة و الكلمات الرنانة للتغطية على أي مشكلة تطرأ على العلاقة بين المسلمين و المسيحيين؛ عنصرَي الأمة.

لا يضر أي فرقتين أن تطرأ بينهم الخلافات و التضاربات من حين لآخر لأن تلك هي طبيعة الاختلاف. و لا يضر أيًا من الفرقتين أن تتصارح مع الإخرى ليتوصلا إلى الحق و العدل في العلاقة المشتركة. إن العلاج بالمسكنات هو الذي خلق مجتمعًا مترهلًا مشققًا هشًا مكتئبًا ضعيفًا؛ و هي بالمناسبة نفس الأعراض الجانبية للعلاج بالكورتيزون على المدى الطويل.

إننا اليوم أمام اختبار لوأد الفتنة و للخروج من مستنقع الطائفية. علينا اليوم أن نكشف الحقيقة كاملة دون تزييف لنعرف جيدًا كيف ستسير العلاقة بين المسلمين و المسيحيين خلال العقود و ربما القرون القادمة من عمر مصر. علينا اليوم أن نعرف من يروج الشائعات أو من يخفي الحقائق حتى لا تبقى الضغائن و لا يندس الحاقدون. علينا أن نتوقف فورًا عن استخدام منطق الكورتيزون في التعامل مع قضية عنصرَي الأمة. أعرف أن بعض أصدقائي سيقولون أن الكورتيزون في الطب يتم سحبه بشكل تدريجي. هو كذلك فعلًا لكن كورتيزون الشعوب يختلف عن الكورتيزون الحقيقي

أحمد ثروت

8/5/2011