الأحد، 18 سبتمبر 2011

بأي ذنب قُتِلَتْ! قصة قصيرة


د/ عادل رفعت تزعجه حياته مثلما تزعجه كوابيسه.

يستيقظ د/ عادل في ذلك اليوم مقبوض الصدر مما صور له عقله حين غفا. بالكاد يلتقط أنفاسه لينزل من فوق سريره و يتجه سريعًا نحو ماءٍ يغسل به وجهه. و مع الماء تهدأ نفس د/ عادل شيئًا ما فيرخي رأسه للأمام مستندًا على الحوض لبعض الوقت ثم يتوجه إلى المطبخ يعد قهوته التي يتركها على نار هادئة و يخرج إلى الشرفة.

يشعل د/ عادل سيجارته ناظرًا باتجاه الشارع الخالي من المارة. دائمًا يذَكِّره الشارع الفقير بأنه يعيش وحيدًا منفيًا في أسيوط على ذمة عمله بمكتب الصحة. لا يعرف كيف ساقته أقداره كي يصير طبيبًا شرعيًا يعمل في بلد يراه نائيًا فقيرًا, بلد لا يعرف فيه إلا جرائمه و جثثه و مجرميه. ما زال د/ عادل يجد في نفسه غضاضة من كونه طبيبًا غير مصرح له بمزاولة مهنة الطب – من وجهة نظره-. بل هو مخول دائمًا و أبدًا بتقصي أبشع الأحداث و التعامل مع كل ما يراه مقززًا يثير أعصابه و يدفعه نحو الجنون دفعًا فلا يجد أمامه حين ينتهي عمله إلا أن يهرع إلى أي مكان يمارس فيه أي مجون يذهب بعقله بعيدًا عن كوابيسه لينفث من جنونه المتوحش في ذاك المجون علّه يرتاح, و لو قليلًا.

يصل د/ عادل إلى مكتب الصحة ليجد بانتظاره إشارة من النيابة بالتوجه إلى (فرشوط) لفحص جثة طفل رضيع. بملامح ثابتة يجلس د/ عادل إلى مكتبه و يضع الإشارة جانبًا بهدوء ليشعل سيجارة و يسحب منها نفَسًا عميقًا و يخرجه. لماذا يصر الناس على ارتكاب جرائمهم في تلك الأماكن البعيدة؟ ماذا عليهم لو أنهم جاءوا إلى مدينة أسيوط ليرتكبوا فيها ما طاب لهم من الجرائم بدلًا من تحميله عبء السفر الشاق على طريق وعرة لتقصي جرائمهم؟

يظل د/ عادل في مكانه لعشر دقائق يكمل سيجارته و يتناول قهوته الثانية استعدادًا ليوم طويل ثم ينادي على (العسكري) الذي جاء إليه بالإشارة و يطلب منه أن يسبقه إلى السيارة التي ستقلهم إلى فرشوط. بعد قليل ينهض د/ عادل و يستقل السيارة برفقة (العسكري) الذي –بدوره- يحكي له بعض تفاصيل الجريمة خلال طريقهم. كانت كل التفاصيل التي يعرفها العسكري هي أن جثة طفل حديث الولادة قد وجدت بداخل كيس أسود للقمامة و ملقاة في إحدى (الخرابات). إذًا فمهمة د/ عادل هي فحص الجثة لمعرفة عمر الطفل و سبب وفاته و وقت حدوث الوفاة و غير ذلك من المعلومات المطلوبة. ليس هذا فقط؛ إنما ستمتد مهمة د/ عادل طالما ظلت النيابة تحقق في القضية.

"الجثة لرضيع.... أنثى عمرها عند الوفاة حوالي 36 ساعة و توفيت قبل حوالي 12 ساعة من وقت توقيع الكشف الطبي على الجثة عن طريق خنقها بوضع قطعة قماش بحلقها.... و لوحظ أيضًا وجود كدمات متفرقة بأنحاء مختلفة من الجسم..... إلخ"

أنهى د/ عادل كتابة التقرير و أعطاه إلى وكيل النيابة ليعود إلى أسيوط مرة أخرى و ينام في بيته قليلًا.

بعد ذلك مرّت حياة د/ عادل كما اعتادها حتى زاره نفس العسكري بعد يومين و حكى له بعض التفاصيل التي استجدت على القضية. تم القبض على امرأة بغِيّ - رآها بعض شهود العيان تلقي بكيس قمامة في وقت متأخر - و يتم الآن استجوابها داخل سراي النيابة و الضغط عليها لمعرفة علاقتها بالجثة من عدمها. كما أبلغ العسكري د/ عادل أيضًا أن النيابة قد ترسل المرأة إليه خلال أيام لتوقيع الكشف الطبي عليها.

في اليوم التالي تصل فعلًا المتهمة إلى مكتب الصحة لتوقيع الكشف الطبي عليها و معرفة هل وضعت مولودًا خلال الأسبوع الماضي أم لا؛ و هو سؤال محوري لأنه في حال ثبوت وضعها مولودًا خلال تلك المدة سيقترب الاشتباه في تورطها بالجريمة من حد اليقين. أما إذا ثبت عكس ذلك فهو دليل قد يكفي لبراءتها و ربما قيد القضية ضد مجهول و عدم الاستدلال على نسب الطفلة.

ملامح الطبيب الشرعي تبدو مألوفة لدى المتهمة. تشعر أنه ربما قد زارها في إحدى الليالي لكنها لا تذكر متى كانت الزيارة و هل حدثت – أصلًا- أم لا.

أما هو – د/ عادل -؛ فعيناه المتيقنتان تُذَكِّرانه تحديدًا بسابق المعرفة التي جمعتهما سويًا من قبل. لا يستطيع أن يصرف عينيه المذهولتين عن محادثة عينيّ المتهمة – المتحيرتين- حديثًا ذهب بما كان يتملكها هي من رعب و رهبة و أبدلهما بابتسامة قبيحة كابتسامات بنات مهنتها. و لم لا تبتسم و قد أخبرتها عينا الطبيب الجاحظتان بما تاه للحظات بعيدًا عن ذاكرتها؟

حتى و هو يأمر (الحكيمة) بتجهيز المتهمة للكشف الطبي لم ينقطع بينهما حديثهما الصامت. متى كان أول لقاء بينهما؟ يحاول هو لو يُكَذِّب تقديره للزمن الذي مر. يحاول لو يقنع نفسه أن ما حدث بينهما قد مر عليه وقت طويل جدًا؛ أطول من مجرد بضعة أشهر. أما هي؛ فيقينها قد دلّها على لقائهما الأول. و لأنها هي من حملت الطفلة بين أحشائها فهي تعرف كم مر من الشهور؛ بل كم مر من الأسابيع.

فجأة يشعر د/ عادل و كأنه هو الذي استسلم لسرير الكشف ينتظر من نفسه كلمة تبرؤه أو تدينه. هي الآن تتخذ وضع الكشف الطبي و تبتعد عيونها عن عيونه لكن الحديث لم ينقطع؛ لا بالنسبة إليه و لا بالنسبة إليها. هو يذكر الجريمة البشعة التي سافر إلى (فرشوط) لتقصيها. هي تذكر كم كان هو متوترًا. هو يذكر أنه كان مستثارًا مقبوضًا. هي تذكر أنه كان ماجنًا عنيفًا. هو لا يذكر كيف انتهت به ليلته. أما هي, فتذكره و هو يجري مبتعدًا عنها كالمجنون.

بجد د/ عادل نفسه منصرفًا عن سرير الكشف إلى مكتبه. يمسك قلمًا بيمينه و ينظر إلى ورقة بيضاء أمامه كمن يلومها ثم يمد قلمه نحو الورقة لكنه يسحبه. بعد قليل بمده ثانية ثم يسحبه. في ورقته البيضاء تظهر له صورة طفلة تبتسم كالملائكة, و صورة بغيّ تبتسم كالشياطين. تظهر له طفولته هو؛ كان طفلًا جميلًا مبشرًا بالخير. تظهر له صورة فتاة أحبها و لم ينلها, صورة صديق رآه أفضل منه فحقد عليه, صورة أبيه و أمه يبكيان لقسوة قلبه عليهما. تظهر له صورة قلبه كصخرة صماء تقطر دمًا و دموعًا.

يكتم د/ عادل أنفاسه بشدة و تسرع يمناه بالقلم نحو الورقة البيضاء ليخط تقريره. لا يمكن أن تكون المتهمة هي أم الطفلة المتوفاة لأنها لم تضع مولودًا خلال الأسبوعين الأخيرين على الأقل... و يكفي هذا.

تتناول (الحكيمة) التقرير تقرؤه.

لأنها امرأة فهي تعرف أن المتهمة ليست كذلك.

و لأنها تعرف د/ عادل فهي تتوقع منه أي شيء.

لكنها لا تعرف – و لا أحد يعرف- من تكون تلك الطفلة مجهولة النسب.

تمت

أحمد ثروت السعيد

18/8/2011